فى عام 2010 زرت غزة والتقيت السيد إسماعيل هنية، وفى عام 2012 زرت قطر والتقيت السيد خالد مشعل.
وبعد ثورة 30 يونيو المجيدة 2013 قابلت الرئيس محمود عباس فى القاهرة. ومن قبل ومن بعد التقيت عدداً كبيراً من الشخصيات الفلسطينية البارزة.. وكان الحديث عن مصر وعن فلسطين يمضى بالتساوى.. جانبٌ عما يجرى فى مصر وجانبٌ عما يجرى فى فلسطين.
إن الحاجة اليوم أكثر من أى وقت مضى.. لإعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية التى أزاحها الربيع العربى بعيداً.. ولولا الخطاب القوى الذى ألقاه الرئيس عدلى منصور فى الكويت، والذى أكد أن القضية الفلسطينية كانت وما زالت هى القضية المحورية والمركزية فى المنطقة.. لذهبت القضية إلى مدى أبعد فى الاهتمام وإلى ركنٍ قصىّ فى ساحة الأولويات.
وظنّى أن حركة حماس تتحمل جانباً كبيراً من المسئولية عمّا أصاب القضية الفلسطينية من ضررٍ بالغ.. تحولت معها معادلة الصراع من «فلسطين ضد إسرائيل» إلى «فلسطين ضد فلسطين».
إن ما يخرج من حماس ضد «غير حماس» أو «غير الإخوان» بات أكثر كثيراً مما يخرج منها ضد إسرائيل.
أصبح الهجوم على الرئيس عباس أضعاف الهجوم على نتنياهو، وباتت الحملة على «سياسات فتح» أكثر من الحملة على «سجون إسرائيل».. وأصبح النيْل من القاهرة مقدمٌ على النيْل من تل أبيب!
تحولت الأنفاق من «مزاعم الكفاح» إلى «فائض التجارة».. وتحوّلت نماذج المارّة فيها من «أصحاب القضية» إلى «أصحاب الشاحنات».. ومن خلايا «المناضلين» إلى حشود «المهربين». وبعد أن كانت حماس تهاجم اتفاقيات كامب ديفيد التى قامت بتحديد الجيش المصرى فى سيناء باتت حماس شريكاً أو نصيراً لمحاولات إخلاء الجيش المصرى من سيناء!
ولما كان المشهد العربى يحوى سقوطَ جيوشٍ عربية، وحملةً يقودها تحالف «العملاء» و«الجهلاء» على جيش مصر.. الرصيد الباقى من القوة الصلبة لأمة مأزومة، بينما تواصل إسرائيل حملتها الدولية من أجل «يهودية الدولة».
لما كان المشهد كذلك.. رأيتُ أن أوجّه فى السطور التالية رسالةً إلى السيد خالد مشعل زعيم حركة حماس ورئيس مكتبها السياسى.. هى رسالةُ تنبيه فى وقتٍ عصيب.
عزيزى السيد خالد مشعل:
أعرف جيداً التحديات التى تواجهُها حركتُكم بعد أن ذهبت فضائل المقاومة وحلّت مزايا السلطة.. ثم تلك الهزة النفسية التى ألمّت بكم بعد صعود وهبوط جماعة الإخوان المسلمين فى مصر.. وأعرف كذلك أن طول الإقامة فى سوريا وبؤس الإقامة فى قطر واحتمالات الإقامة فى إيران هى كلها عوامل ضغط على «السياسى» و«الإنسان» معاً.. كما أعرف.. أن رفاقَك ورجالَك فى الحركة ليسوا سواء.. وأن فيهم من يعمل لنفسه، وفيهم من يعمل لغيرك.. وفيهم أيضاً من لا يريدون أرضاً ولا دولة.. ولا يريدون أن تنعم أبصارهم بساحة الأقصى.. قدر ما يريدون أن تكتحل عيونهم بأضواء الكاميرات وحقائب الأوراق الخضراء.
عزيزى السيد خالد مشعل:
إنك رئيسٌ لحركةٍ.. كان قدرُنا أن نكون إلى جوارها، وكان قرارها ألا تُحسِن الجوار.. فاختارت أن تتخلى عن الطريق الصحيح إلى القدس لتسلك الطريق الخطأ إلى مصر.
ثمّةَ من يقولون: لا دخل لنا.. وهذه دعايةُ إعلام وهجماتُ صحافةٍ لا سَنَد لها. وثمّة من يقولون: إن النظام القائم فى مصر يُلصق بِنَا ما ليس فينا.. وهم ينتقمون من جماعتِهم فى حركتِنا.
وأقول لك.. إن الأجهزة الأمنية فى بلادنا تمتلك وثائق تؤكد تورط عناصر من حركتكم فى أهداف تخريبية عندنا.. كما تؤكد تعاوناً بينهم وبين «السلفية الجهادية» من أعداء الأمس.. لأجل كسر الدولة المصرية فى سيناء!
لعلك تتذكر أنه حين حاول الشيخ عبداللطيف موسى وأعوانه من «السلفية الجهادية» إسقاط نظامكم بعد تكفيركم وإعلان إمارة إسلامية فى غزة هو أميرها.. كان قرار حركتكم هو قتل الشيخ ومن معه.. واقتحام المسجد وقتال المصلين.. حتى تراكمت فى ساحة المسجد (23) جثة لأجل إسقاط الإمارة فى مهدها.. وصوْن سلطتكم دون منافس أو شريك.
واليوم يرى البعض فيكم عكس ما رأوْا بالأمس.. حيث يَقْبلون على أرضنا ما لم يقبلوا على أرضهم.. ويدعمون فى بلادنا من قتلوهم فى مساجد بلادهم!
إنك تعلم -وكان الإخوان فى مصر يعلمون- أن المسافة بينكم وبين السلفية الجهادية («القاعدة» وتوابعها) أبعد كثيراً كثيراً ما بينكم وبين التيار المدنى.. «أنتم» و«هم» لم تكونوا فى قارب واحد.. لقد قاتلوكم فى أفغانستان وقاتلوكم فى فلسطين.. ومثلما قاموا بتكفيركم ومحاولة سحقكم فى غزة.. قتلوا منكم «أحمد شاه مسعود» و«برهان الدين ربانى» فى أفغانستان.. إنها المعادلة التى وصفتُها فى كتابى «خريف الثورة» بأنها «الجهاد ضد الجهاد» و«المجاهدون ضد المجاهدين».
أسألُك اليوم: ما الذى تغيّر؟.. كيف تقاتلونهم فى فلسطين وأفغانستان وتحالفونهم فى سيناء؟
عزيزى السيد خالد مشعل:
لقد تاهت منكم معالم الطريق.. وتوزعت أهداف حركتكم على حماية سلطتها فى غزة.. والبحث عن عواصمَ مترفةً لأجلِ طيبِ الإقامةِ وزُخرُف القوْل.
ولقد تمزقت الأيديولوجيا داخل الحركة ما بين أنصار الشيعة وأنصار السنة.. وما بين رجال سوريا ورجال قطر ورجال إيران.. أو رجال كل مكان.. قبل فلسطين!
وحين أتابع تصريحات أعضاء المكتب السياسى وقادة كتائب عز الدين القسام.. وجناحَى الداخل والخارج.. أسأل ذلك السؤال الشهير فى العلوم السياسية: من يَحكُم حماس؟!
لقد سمعت منكَ فى الدوحة.. ثناءً حاسماً ومديحاً قاطعاً بحق اللواء عمر سليمان وسمعت منكم إطراءً فى حق المخابرات المصرية أثناء وبعد عمر سليمان.. وحديثك كان واضحاً فى أن عهد مبارك وعهد المجلس العسكرى كانا داعميْن تماماً لكم وللقضية الفلسطينية وكان ذلك معناه أن الدولة المصرية فى كل مراحلها تحمل موقفاً ثابتاً بشأن فلسطين والفلسطينيين.
لكن كل شىء قد تغير بعد وصول الدكتور مرسى إلى السلطة.. تحدثتْ «حماس» وكأنَّ التاريخ قد بدأَ مع جماعة الإخوان المسلمين وكل ما سبق باطل وضائع.. وكل ما عداهم موالٍ وتابع!
وإنّى لأتذكر هنا.. ما كنت أقرأه عن بطولات الإخوان المسلمين فى حرب فلسطين.. وذات مرة قلتُ لأبى -وكان عضواً فى الجماعة- لماذا لا تتحدثون عن بطولات المصريين؟ لماذا فقط بطولات الإخوان؟.. لماذا يتحدث الشعب كله عن الجيش المصرى فى حروب فلسطين وتتحدثون فقط عن الإخوان فى الحرب.. لا بطولات الجيش؟!
لو أنكم فدائيون.. كان الفدائيون المصريون من غير الإخوان أضعاف أعدادكم.. وكانت بطولاتهم أضعاف بطولاتكم.. إن معظمهم لم يسجل مآثره ومفاخره.. والذين سجلوا ذلك قالوا إنها مآثر ومفاخر بلادهم فى مواجهة العدو.. فلماذا يسجل الإخوان تاريخاً غير تاريخ الوطن؟
عزيزى السيد خالد مشعل:
حان الوقت لأن تجرى حركتكم مراجعة فكرية جريئة، حتى لو أدى الأمر إلى انشقاق بعض الزاعقين المزايدين الذين تعرفهم ونعرفهم. إن «حماس» التى كانت تدرك فى السابق دورها وحجمها وهدفها.. فانصاعت للرئيس ياسر عرفات.. وعمل شيخها الجليل الشهيد أحمد ياسين مع منظمة التحرير تنسيقاً وترتيباً فى السر والعلن.. إن «حماس» التى كانت تدرك أن المعركة مع إسرائيل لا مع فتح ولا القاهرة.. وأن ولاءها لإقامة الدولة لا لدعم مكتب الإرشاد.. تبدو الآن وقد دخلت حقبة من التيه والتخبّط.
إن المراجعة الفكرية التى تحتاجها حماس.. ينبغى أن تتضمن رؤية حاسمة للقضية الفلسطينية.. ولقد قال لى رئيس الوزراء الروسى الأسبق بريماكوف حين التقيته فى جزيرة مالطا قبل أعوام: إن موقفك هو موقف الرئيس السادات من حدود 4 يونيو 1967.. ولكنك تقول لشعبنا فى فلسطين ما لا تقوله للساسة فى العالم.
إن المراجعة ينبغى أن تتضمن موقفاً حاسماً لصالح ثورة 30 يونيو فى مصر.. وإزالة أى لبسٍ أو غموض.. وتقديم المتهمين من حركتكم بدعم الإرهاب فى مصر للحساب والعقاب. إنها تتضمن أيضاً.. الانفصال التام عن جماعة الإخوان المسلمين والتنظيم الدولى.
إن تحملكم أوزار الجماعة وحساباتها الكارثية لن يكون إلا خصماً منكم وخصماً من الكفاح الفلسطينى.. وإن ترككم للجماعة وانفتاحكم على المصالحة مع حركة فتح والمجتمع الفلسطينى.. وإعلاءكم لقضية بلادكم على مصالح حلفائكم.. لهو السبيل الوحيد لعودة الرسالة التى غابت مع غياب الشيخ ياسين. ولقد كان الرئيس عدلى منصور أميناً وحاسماً حين قال: «إن حركة حماس ارتكبت الكثير من الأخطاء حين زجّت بنفسها فى المشهد السياسى المصرى.. بدعمها جماعة الإخوان، وإن تنقية الأجواء بين مصر وحماس تتطلب وقف ذلك.. واحترام السيادة المصرية».
عزيزى السيد خالد مشعل:
إنك تعلم أن جماعات الإسلام السياسى خارج فلسطين لطالما استخدمت القضية لخدمة أغراضها.. ولم تكن صور المسجد الأقصى فى احتفالاتهم ومظاهراتهم إلا لدعم صورهم وتعزيز مكانتهم.
وإنك تعلم أن طلاب الإخوان المسلمين لطالما أحرقوا علم إسرائيل وأمريكا فى ساحات جامعة القاهرة والجامعات المصرية.. تعلم أيضاً أن ذلك لم يحدث قط منذ ثورة 25 يناير التى عزّزت الصعود السياسى للإخوان المسلمين.
ولعلك تتابع أحداث الجامعات المصرية ومحاولة الإخوان تأسيس حركة «طالبان مصر».. ومن المؤكد أنك لم تسمع اسم فلسطين ولا المسجد الأقصى فى هتاف واحد أو صورة واحدة.
وختاماً.. لقد خاطبتُك لسابقِ ودٍّ بيننا.. وحسنُ ظنٍ وبقايا أمل.. لا يزال قائماً.. وإنى لأتمنى أن تتمكن من إنقاذ «حماس» من «حماس».. وإنقاذ فلسطين من بعض الفلسطينيين.. وألا تكون «حماس» فى الجانب الخطأ من التاريخ.. أو ضد الجيش الذى حارب التتار والصليبيين وإسرائيل. من القاهرة إلى القدس الغالية وإلى شعبنا الصامد فى فلسطين.. كل التحية.