«زكريا هات سيجارة».. و«دوغرى» و«سيدة» و«أولحة».. قل «مريض نفسى» ولا تقل «مجنون»
يسير بالساعات فى الشوارع، لا يمل ولا يتعب، يعرفه أهل منطقته بشارع فيصل جيدا، تميزه ملابسه المتسخة والممزقة التى لا تتغير، يبتسم فى وجه كل من يراه، يمد يده بالسلام على المارة وكأنه يعرفهم شديد المعرفة. «طلقتها» يصرخ «زكريا» ثم يهدأ، يشعل سيجارة، ويكمل سيره، باحثا عن شخص جديد، يفضفض له عما فى قلبه، بكلماته المحفوظة والمرتبة.
«طلقت الولية، راحت وسرقتنى، يرضيك كده؟ أحسن غارت هى والعيال، كنت هعمل بيهم إيه!» بعدها يخبط يده على رأسه بكل قوة. الرجل المضطرب نفسيا، لا يبقى على نفس طيبته المعهودة دائما، قد يغضب فجأة، يسب كل من يراه، وأحيانا يضرب كل من يجده أمامه، أهل الشارع يعتبرونه فقرة يومية للتسلية والضحك.
سيناريو حياة «زكريا» يتكرر مع «سيدة» التى اعتادت السير فى شوارع وسط البلد، بجلباب واحد لم تغيره منذ سنوات، «سيدة» لمن لا يعرفها هى من «مجانين الشوارع» الهائمين على وجوههم، لها زوج وأولاد، حسب روايتها، لكن لا أحد يعرف طريقهم، اعتاد سكان منطقة بولاق أبوالعلا على حركات فجائية مجنونة تقوم بها «سيدة» كأن تخلع ملابسها وتستحم وسط المارة أو أن تخلع ملابسها الداخلية وتقضى حاجتها فى وسط الطريق.
لا تضحك إذا رأيت «دوغرى»، حتى لو ضحك هو، قابل الضحكة بلا مبالاة، نصائح يقدمها أبناء منطقة الهرم لكل من يرى «دوغرى» وهو يسير بكل فخر ببدلة تنتمى إلى موضة السبعينات، لا عمل للرجل الذى يمكن تصنيفه من الوهلة الأولى بأنه «مريض نفسى» إلا السير متكئا على «عصايته»، وفى فمه «زمارة» يزعج بها المارة. «سيد» يبدو مختلفا عن مجاذيب القاهرة، لا يكلم أحدا، يسير بهدوء، غامض، لا أحد يحتك به نظرا لشكل ملابسه المتهالكة، وشعره الملىء بالأتربة، وجسمه الضخم، حتى هو لا يختلط بالناس إلا قليلا، أحيانا يقترب من السيارات ويشاور على فمه، فى إشارة منه إلى أنه يحتاج لطعام.
«أولحة.. يا أولحة»، لحن يحفظه أطفال المريوطية، يرددونه كلما رأوا رجلا أربعينيا يسمونه «أولحة»، يجن جنون الرجل الوسيم نسبيا، الذى يرتدى ملابس نظيفة: «من زمان وأنا صغير كنت مش بسيب الراجل الغلبان ده فى حاله»، قالها الشاب العشرينى «محمود حسين»، أحد شباب المنطقة. كبر الأطفال، أصبحوا شبابا، وتأتى أجيال أخرى، وما زال اللحن موجودا، يردده الأطفال فى وجه «أولحة»، الذى يجن جنونه بعدها ويقوم بإلقاء الحجارة عليهم وعلى المارة والسيارات.
«مفيش حاجة اسمها مجنون، بل مضطرب نفسيا ويجب أن يذهب المقربون منه إلى أقرب قسم شرطة، لعمل بلاغ، ثم تأتى الشرطة إلى مكانه ويتم إرسال طبيب لتقييمه»، قالها محمود مدبولى، مدير إدارة شئون المرضى بمستشفى العباسية، مؤكدا أن المستشفى ليس جهة تنفيذية لإحضار المرضى من الشارع ولا يستقبل من هم أقل من 18 عاما.
بحسب «مدبولى» هناك مشكلتان كبيرتان تواجهان المستشفى، وتؤثران على أداء العاملين به؛ الأولى هى أنه لا يوجد فى مصر ثقافة لمواجهة المرض النفسى «بعض الأهالى ما بيصدقوا يجيبوا المريض، وكأنه عار، ويخجلون من مرضاهم، وأحيانا الأهل بيدونا أرقام تليفونات مضللة عشان ما نعرفش نوصلهم، والمستشفى ليس ملجأ ولا دار رعاية»، قالها مدير إدارة شئون المرضى، مؤكدا أنه بعد تحسن المريض وخروجه، يهمل الأهل فى علاجه، ما يؤدى إلى حدوث انتكاسة للمريض.
المشكلة الثانية بحسب «مدبولى» هى إحساس 1200 عامل، ما بين طبيب وممرض وإخصائى وإدارى بالظلم، فالعائد المادى قليل جدا مقارنة بمهمتهم الصعبة، لأنهم يتعاملون مع مريض قد يشكل مخاطر عليهم.