اسمحوا لى أن أستعرض سريعا القليل جدا من الكثير جدا من نماذج انهيار العمل التليفزيونى فى السنين الأخيرة، ولأبدأ من بعض الظواهر السياسية، ليتعرف الجمهور على أن له حقوقا على الإعلامى، ولكنه للأسف لا يطالب بها بل الأخطر أنه يجهلها، هل يحق للإعلامى أن يقول (أخبرنى شاهد عيان؟). هذا مصدر مُجهل، ونقول مُجهل وليس مجهولا، لأن الإعلامى أخفاه، وهو لذلك لا يجوز الاستناد إليه، هل يحق للإعلامى أن ينسب الخبر لجهة غير معتمدة؟ كأن نقرأ مثلا هذه العبارة (المرصد الحقوقى السورى: 200 قتيل اليوم فى قرية كذا قتلتهم قوات النظام)، وأين وكالات الأنباء؟ وكيف نعتمد على مصدر يفتقر إلى الآليات والوسائل والمهنيات الإعلامية التى تمكنه من الحصول على الأخبار الصحيحة والدقيقة؟ ثم كيف نتمكن من مراجعته؟ هل يجوز لقناة دولية أن تتجاوز الخط السميك الفاصل بين الإعلام والتعبير عن الحدث إلى المشاركة فيه بل وربما استباقه بمعنى التأثير القبلى المباشر فيه؟ هذه خطيئة إعلامية تابعناها بكثافة أثناء الخريف العربى المسمى الربيع العربى.
هذا جزء يسير فى الجانب السياسى يمهد لأن ندخل إلى الأهم، وهو ما يتغلغل عن عمد فى أساسيات بنائنا الدينى والأخلاقى والوطنى، إن الوجع الإعلامى وجع مضنٍ، آلامه الوطنية والأخلاقية والثقافية فوق أن تحتمل، وكلما طالعنا آثاره الواقعة والمحتملة على ألسنة ووجوه وكيانات أبنائنا تضاعف شعورنا به، والأكثر إيلاما أن مصر الحضارة التى كانت تمد كل جيرانها بأسباب وعلامات وشارات التحضر، فى الإيماءة والحركة واللفظ والأسلوب، باتت نموذجا لأحط الأنماط التى لا تمت بصلة لأى حضارة أو ثقافة أو تربية، فقد تبجح بعض المدعين المزيفين من أشباه الإعلاميين فلم يكتفوا بهذه الصفة المسروقة والمغتصبة، وإنما حولوا أنفسهم إلى قادة رأى، وجلس الواحد منهم على كرسى وأمامه منضدة وتُرك الأمر بينه وبين الناس بالساعة والساعتين دون رقيب أو حسيب، وهو مجرد لا من الثقافة الواجبة وحدها وإنما من قواعد وقوانين ولوائح ومواثيق العمل الإعلامى، فأطلق لنفسه العنان أن يصرخ ويشتم ويسب، وأن يقول المعلومات دون توثيق أو تحديد لمصادرها وأن يدلى برأيه مجردا من أى منطق أو سند وإنما بهوى ومزاج وغرض، وبعد ذلك يقود حوارا بين طرفين أو بالأحرى ديكين قد استعدا للنزال وليس الحوار، وباتا جاهزين لكل أشكال القذف والسب والإهانة والعيب، هذه الخطايا والجرائم الإعلامية تنذر بانهيار كامل فى منظومة الحياة فى بلادنا.
نفس «الجزيرة» سنت سنة غريبة حينما أرادت للعين العربية وللوجدان العربى وللقلب والنفس العربية أن تعتاد رؤية الصور البشعة، وألا تهاب مناظر الأجسام المقطعة والوجوه المشوهة، ثم بشكل مخالف لكل القواعد المهنية ابتكرت حيلة ساذجة بأن يسبق عرض هذه اللقطات قول المذيع أو المذيعة إننا ندعو أصحاب القلوب الرقيقة أو الضعيفة عدم رؤية الشريط القادم لما يحتويه من مشاهد مؤلمة.
لست هنا لمحاكمة «الجزيرة» التى غلّفت جرائمها بأفلام وبرامج وثائقية مهمة وجذابة شوشت علينا إدراك ماهيتها فترة من الزمن، لكنى أردت أن أؤرخ بعدل ومنطق لبدايات بعض الظواهر المقيتة التى اجتاحت عالمنا الإعلامى، فللأسف بدأت القنوات الخاصة فى مصر تحذو حذوها وتقلد صنعها وبصورة أسوأ، فاستمعنا إلى ألفاظ وعبارات ما كنا نتخيل يوما أن نتابعها ونطالعها على الشاشات التى تعلمنا قديما من روادها كيف نتكلم ونعبر، ونحن هنا واجبنا مساءلة ومحاكمة بعض هذه القنوات الخاصة التى أُطلقت دون حسيب أو رقيب واقتحمت بيوتنا بجيوش من المتطفلين على العمل التليفزيونى، دون معرفة القليل من قواعده وخصوصيته، إن أمثال هؤلاء الإعلاميين باختصار يتاجرون فى سلع محرمة، وآن الأوان لضبطهم يوميا متلبسين بجرائم ترويجها.