نعم، وواهم من يعتقد أن روسيا اليوم هى قبلة اليسار فى زماننا المعاصر، فبالتأكيد هى لا تمثل الأيديولوجية الشيوعية أو الفكر الاشتراكى ولا هى معنية بهموم البروليتاريا عبر الكرة الأرضية، كما يحلو للبعض أن يتصور، أو بالأحرى يتوهم، بل لعل روسيا الآن أقرب إلى أن تكون دولة رأسمالية أو الأدق أنها خليط من ملامح وعناصر أيديولوجية متقاطعة لا يمكن حصارها فى مصطلح واحد أو فى توجه إجرائى صريح. أقول هذا، لأننى أتعجب، حينما يبتهج بعض من اليسار المصرى بكل تقارب مصرى روسى، وهو ابتهاج عادة ما يكون مصحوباً بترجمات مزيفة عن ترافق هذا التقارب مع القومية العربية ومقاومة الإمبريالية العالمية إلى آخره مما كان محفوظاً إلى وقت ما، وصار فى هوامش الذاكرة أو ربما فى قاعها الذى لا تسعى إليه خلايا العقل الواعى. والحقيقة أنه ينبغى أن نعترف بأن الموقف الروسى فى ظل الأزمة السورية الأخيرة كان مفاجئاً ولافتاً وفاق كل التوقعات وقد كنا فى البداية نفسره على أنه نوع من الكبرياء القومى الروسى الآتى فى الوقت الضائع، أى أنه مفتقد الجدوى، لكنه بمرور الوقت أثبت أنه عظيم التأثير، صحيح أن حضوره أو بالأحرى استحضاره فى الأزمة السورية يبدو منطقياً باعتبار أن سوريا القيادة وحزب بعثها، هما الدليل الوحيد الحاضر على أنه فى يوم من الأيام كانت هنالك دولة عظمى اسمها «الاتحاد السوفيتى»، كما أن النهم والجشع الاستراتيجى الأمريكى كان محرضاً أساسياً لاستيقاظ الدب الروسى، ليس بدافع من الكبرياء القومى وحده ولكن بمنطق براجماتى سياسى بديهى يدافع عن فرص حقيقية للوجود الروسى يصورها الآخر على أنها فرص ضائعة منذ زمن.
وهنا ننبه كذلك إلى أن البعض يقرأ هذا الابتهاج على اعتبار أنه ليس فرحاً بالتقارب الروسى المصرى، بقدر ما هو إيذان بأن مصر تخرج من بين الذراعين الثقيلتين للحاضن الأمريكى الغول وهذه القراءة ربما تجعل مثل هذا الابتهاج مبرراً أو على الأقل مفسراً، صحيح أن القيادة المصرية الدبلوماسية تصدر دوماً للصحفيين إجابة محفوظة عند كل لقاء مصرى روسى مفادها «أن ذلك التقارب لا يمكن بحال أن يكون بديلاً عن العلاقات المصرية الأمريكية المصرية الاستراتيجية»، أى أنها لا تأتى بديلاً عن تباعد مصرى أمريكى محتمل ولو بصورة نسبية، ولكنها إجابة يصعب أن يستسيغها عدد كبير من المراقبين المحترفين الذين يرونها مجرد لغة دبلوماسية نمطية لا يمكن قياسها بمعيار رياضى، فهى باختصار تعارض نظريات راسخة مستقرة، على أن أى تقارب عسكرى مصرى روسى لا بد أن يتناسب عكسياً مع تنامى أو استمرار العلاقات المصرية الأمريكية السياسية والعسكرية بنفس الوتيرة، ولا شك أن زيارة المشير السيسى لروسيا قبيل ترشحه لمنصب رئيس الجمهورية وتصويره فى بدايات الزيارة بملابس مدنية إيذاناً بالهيئة الجديدة التى ينبغى أن تعتادها الجماهير لصورته، وهى بعد لم تفارق أذهانهم صورته المزهوة باللباس العسكرى، لا شك أن تلك الزيارة بهذه الملابسات لا يمكن تفسيرها وتقييمها بعيداً عن الموقف الأمريكى المعلن المعارض لترشح المشير لمنصب رئيس الجمهورية، بل إن تلك الزيارة تبدو وكأنها إعلان عن أن الحوار الدائر عبر وسائط وقنوات غير مباشرة فى هذه القضية قد صار إلى طريق مسدود، وأن إرادة مصرية حرة عاقلة وليست مقامرة قررت أن يكون خيارها ذلك الذى لا يباركه الجانب الأمريكى، بل إن تعبير عدم المباركة يبدو متواضعاً أمام التفاصيل التى تؤكد معارضته لهذا الخيار، بل وربما الإنذار بمواقف أكثر تأثيراً فى حال الاستقرار عليه إذا هذه الإرادة المصرية الحرة والتى استندت فى بدايتها بقوة ومنطق إلى مظلة شعبية جارفة وقاطعة كان من الطبيعى أن تبحث أيضاً عن مظلة دولية كافية لأن يستظل بها بلد عريق ومهم وكبير بحجم مصر التاريخ، وينبغى أن تكون هذه المظلة الدولية مسئولة ومن قبل مستعدة ومحددة، فالتاريخ القديم القريب فى العلاقات المصرية الروسية لم يكن مبهجاً فى كل أحواله ولم يكن مطمئناً فى كثير من اللحظات التاريخية الفارقة، بل كان الاتهام الأساس الموجه له يأتى من أن المظلة الروسية ليست دائماً حاجبة للشمس الحارقة وليست دوماً عازلة لسيول المطر الغزير، وإن كان، فإن مظلة الجماهير هى السماء الحافظة بإذن الله.