اجتمع أقطاى وذراعه اليمنى بيبرس مع أيبك وذراعه اليمنى قطز. كان الفريقان يتناوران فى قضية حكم مصر.. أقطاى كان عنيفا فانفعل فى حواره، حينها طلب منه بيبرس أن يذهب معه للخارج لحظات بغرض التشاور، وفور ما انفرد به قال له «بهذه الطريقة يا مولاى لن تنال حكم مصر أبدا»، فنظر إليه أقطاى مليا وتأمله بعمق ثم فاجأه قائلا: «أما أنت فسوف تنال حكم مصر يوما يا بيبرس فكلانا قوى ولكنك قوى ورحيم وكلانا شجاع ولكنك شجاع وحكيم». وبالفعل مرت بعض السنين وحكم بيبرس مصر وصدق توقع أقطاى؛ فالزعيم الحق ليس قويا بعنف وإنما قوته صنوها الرحمة والزعيم الحق ليس شجاعا بحمق وإنما صنو شجاعته الحكمة وما أحوجنا لقائد أدرك ميزان القوة بالرحمة وأدرك ميزان الشجاعة بالحكمة.. ولم يحكم بيبرس مصر فقط وإنما كان قائدا مغوارا سجل اسمه بأحرف من ذهب ونور على صفحات التاريخ وكان القائد الذى استطاع بحق أن يقهر حملات الصليبيين قهرا وأن يذيقهم طعما مرا للهزيمة العسكرية والسياسية.
سوف أتجاوز التلميح للتصريح وأسقط ما كتبت الآن على الفريق السيسى وهو رجل لا يمكن أن نعتبره لغزا أو صندوقا مغلقا فإن الموقف التاريخى الذى كان خياره الاستراتيجى أكد على أنه من الشخصيات التى لا تقبل الانسحاب من الاختبارات التاريخية الصعبة، بل أغلب الظن أن قدراته تجعله مغرما بهذا النوع من السباقات التاريخية وأنه فى مثل هذه السباقات يتبع قاعدة رياضية مهمة وأساسية وهى أنه لا ينظر إلى الخصم بقدر ما يفكر فى الخطوات الاستباقية التى تجعل أقصى طموحات هذا الخصم عند مستوى رد الفعل، وهذا المنهج الاستراتيجى للرجل يجعله بكل تأكيد شخصية مرفوضة من الولايات المتحدة بل إن خبرات أمريكا السابقة فى المنطقة أورثتها منهجا مضادا لوجود أو بقاء هذه الشخصيات الاستراتيجية فى مواقع مؤثرة فى منطقة الشرق الأوسط، من هذا المنطلق أستطيع تفهم موقف ونصيحة أمير دبى بأن يظل الفريق السيسى فى موقعه كوزير دفاع وألا يتقدم لمنصب رئيس الجمهورية، أستطيع تفهم النصيحة بقدر كبير ولكننى فى الوقت نفسه لا أستطيع تقبلها ولو بقدر ضئيل. أقول ذلك وأنا لست من المتاجرين أو المهووسين بإعلان الصراع مع أمريكا أو بالتهوين من شأن الصدام معها أو حتى التضاد فى المواقف فأنا أعلم جيدا أن هذا أمر جد خطير وهو نفس ما يدركه أمير دبى ومن ثم يربأ بالفريق السيسى عن مثل هذا الصدام أو حتى التضاد لكننى هنا أعود فأتذكر وأذكر بما قاله الفريق السيسى فى حوار مع «واشنطون بوست» بعد 3 يوليو بأسبوعين تقريبا: «أنا أثمن كثيرا اتصال وزير الدفاع الأمريكى بى يوميا للاطمئنان على الأوضاع فى مصر ولكننى بالقدر نفسه أتعجب من أن الرئيس أوباما لم يهاتفنى مرة واحدة» الذى يناور أمريكا بمثل هذه اللغة الذكية القوية المؤثرة هو زعيم يعرف جيدا قدراته ويعرف أكثر قيمة الأمة التى يتزعم (قوة تداخلها الرحمة وشجاعة تصاحبها الحكمة) هذه صفات زعيم لا يخاطر بالأوطان فى سبيل الزعامة الشكلية ولا يغامر بالأمم فى مقابل المظاهر والمزايدات البطولية فسمة القائد الاستراتيجى الرئيسية هى تعامله المستمر والفاعل مع صفحات التاريخ وإدراكه لأبعاد قراراته فى المستقبل البعيد قبل القريب والتزامه بعد إيمانه بثوابت الأمة التى لا ينبغى تجاوز قواعدها ولا إهمال طموحاتها أو تجاهل مشاريعها الأبدية وهى ثوابت عند القائد المصرى أعباؤها ثقيلة وأبعادها عريضة وطويلة بطول وعرض تاريخها فمصر قلب العالم الإسلامى النابض بالمنتج الفكرى الفعال الراسخ وهى ضمير الأمة العربية المتيقظ الذى يثبت حقيقته وظله عند المحك ولعل التجربة الأخيرة فى التعامل مع حكم الإخوان كانت شاهدا حيا على يقظة هذا الضمير وقوة هذه الدرع فى حماية الأمة، وهى جغرافياً كما وصفها جمال حمدان «بلد رأسه فى أوروبا وقدماه فى أفريقيا وقلبه فى العالم العربى وهو قديم قدم الدنيا بأسرها أمين على تراثها مستشرف لمستقبلها».
لقد صدق المؤرخون والمفكرون والأدباء حينما قالوا «إن التاريخ كله عبر من مصر».. وأظنه بإذن الله سوف يسكن فيها السنوات القريبة المقبلة.