م الآخر| طبطبة إلهية
كان يومًا مرهقًا من بدايته، استيقظت متأخرة عن العمل، واضطررت لإرسال رسالة إلى مديري، أعتذر له عن ذلك، برغم علمي المسبق، أن هذا لن يقلل من نظراته الثاقبة السخيفة، لكوني تأخرت عن الحضور.. أعاني من بوادر برد راحت ضحيته كل قواي، وأصابني ببحة في الصوت واحتقان في الحلق زاد من تأففي العام.
أدرك أن أمامي رحلة طويلة بالمترو، وأنا غير مؤهلة تمامًا لهذه الرحلة، في هذه الحالة النفسية النكدة والتي ترافقني منذ أسبوعين على أقل تقدير، لكني أدرك أيضًا كونه آخر الشهر، وما تبقى لي من أموال لا يؤمن لي رحلة في عربة أجرة خاصة، تنجو بي بعيدًا عن هذا الكم من البشر في المترو، المستنزفين لمساحتي البشرية وطاقتي المحدودة أساسًا، كما لا استطيع استبعاد مدى سوء حركة المرور، الذي سبب لي مزيدًا من التأخير والعصبية.
جلست قليلًا على حافة السرير أفكر بشئ واحد، أن أكافىء نفسي على عمل لم أقم به بعد، والخاص بأن أنحشر بين كل تلك الأجساد الرثة في المترو، وأن أتصالح مع تأخيري المسلم به وأتمتع بحمام صباحي دافىء، حيث أن أخي الوحيد نائم والشقة متسعة لي تمامًا إعمالا بالمثل الشعبى السعيد "ضربوا الأعور على عينه قال خسرانه خسرانه".
كانت هذه المكافأة الصغيرة مرضية جدًا لي، فملمس الملابس على الجسد المندى أيقونة مرضية جدًا لي، كما أنني غارقة في حب غسول الجسد الخاص برائحة الخوخ السعيد.
غادرت المنزل مرتلة أذكار ترك المنزل، وذهبت دون أدنى خطط ليوم مختلف، سوى أني سأفعل كل ما استطعت لأصل المكتب في أسرع شكل ممكن، وبعدها فليكن ما يكون.. نزلت إلى شارعنا الهادئ، حيث رحل معظم الناس إلى عملهم وتركت هنا، وحيدة سعيدة إلى حد كبير بهذه الوحدة، فطاقتي تكفيني على مضض منها، لا أقوى على رد السلام بصورة لائقة، ولا الابتسام طيلة الطريق لجيراننا المطلين من الشبابيك، أو المغادرين إلى عملهم أو ما الى ذلك.
كان كل هذا تقليديًا متوقًعا ورتيبًا، لكونه يوميًا جدًا لا يحتوي أي اختلاف ملفت، حتى التقت أعيننا أنا وطنط "أم سعدية"، والتي لم أفكر يومًا ان أسألها عن اسمها الحقيقي، فهذا بعرفها إهانة هي أم سعدية فقط ولا أكثر!.
هي امرأة لا أعلم عنها الكثير، سوى كونها في عمر جدتي وربما تفوقها بسنوات قليلة، توفي ابنها هاني في الجيش في عمر الزهور، حين كنت أنا في العاشرة، لا زلت أذكر هذا المشهد وكأنه بالأمس، حين أطلت النظر من الشباك في خوف وحيرة، فقد علت الصيحات، وكان صوت النحيب كافيًا لإيقاظه هو الغائب عن عالمنا، أحضروه إلى شارعنا ملفوفًا بـ"ملاية"، وقد تحول جسده إلى قطع صغيرة، بعدما انفجر لغم به أثناء التدريب في الجيش، وما باليد حيلة كانت الكلمة المحددة للحدث ككل.
كان الأجمل بين أبنائها الأربعة، ولا أنكر كوني في مرحلة مراهقة متقدمة، كان لدي صورة بليغة لفتى الأحلام، صاحب البسمة الساحرة والجسد المرسوم والروح المرحة، لكنه مات!.. تخلصت والدته من مرحلة النحيب سريعًا، لكونها جنّت بمعني الكلمة، وصارت تحدث طيفه وتبتسم له وتحاوره طويلًا في حضورنا أو غيابنا.. لم تنسى أم سعدية مع مرور العمر أمر هاني فتاها المدلل، وهكذا لم انس السؤال عنها، كلما سنحت لي الفرصة، أم سعدية وجدتي، الوحيدتان اللاتان أحرص على تقبيل يديهما حتى الآن، ولا سبيل لدي لأنسى ذلك أيًا ما كان انشغالي.
بينما أنا أسير مطأطئة الرأس، ماقتة على أمور كثيرة، يحيط بهالتي شبح الضيق والغم والنكد، التقيت طنط "أم سعدية"، تفكرت كثيرًا أن كلمه طنط الإفرنجية هذه، لا تتوافق مع كلمة "أم سعدية"، بما تحتويه من رائحة بنت بلد جدعة، أفنت عمرها من أجل أولادها وراح عقلها ضحية حزنها على أحدهم، لكن لا أعرف لما اعتدت على ذلك واحتفظت به.
انحنيت أقبل يدها بارتشاف صادق، فقد فات زمن على لقائنا الأخير، ابتسمت برقي وطبطبت على رأسي، وقالت بهدوء وسكينة:
رأيتك بالأمس تسيرين حزينة ناظرة إلى الأرض، كنت في الشرفة ولم أقو على مناداتك فصوتي ضعيف، لكن ظلت عيناي تراقبك حتى خطت قدماك عتبة منزلكم، وأدعو لك بكشف الهم وسعة الرزق، أتمنى أن تكوني استيقظتى اليوم أسعد.. أنا مندهشة لكني راضية تمامًا وصامته تمامًا!.
أردفت: يا ابنتي الحبيبة لا تحزني، أنتِ جميلة البسمة فلا تبخلي على الدنيا ببسمتك، بيقولوا "اضحك للدنيا تضحكلك"، وأنتِ محظوظة كذلك، فلديك من يدعو لك بظهر الغيب مثلي وهذه رحمة كبيرة من الله.. أنا لا زلت مندهشة، لكن راضية تمامًا وصامتة تمامًا.. قبلت جبيني بيدين مرتعشتين وأردفت: لا أعلم لماذا أتذكر هاني كلما رأيتك؟، أعرف أنكِ أحببته مثلي وقد كان يخبرني دومًا كم كان يحب اللعب معك في الشارع، وإثارة غضبك بحركات طفولية، فتزدادين جمالًا وذكاءً لتثأري منه كونه أغاظك.
تتنهد تنهيدة طويلة، ولا تزيد إلا بقولها: الله يرحمه، ويباركلك بعمرك وجمالك وصحتك، وأشوفك عروسه يا رب على حياة عيني.. أقبلها من جديد، وابتسم ابتسامة ساذجة؛ لكونها لا تفي بكل ما أشعر به نحوها أو نحو الكون ككل من رضا، إنها الطبطبة الإلهية بكل ما تعنيه الكلمة، لكن لأني متأخرة تركتها لأمضي، بعد أن وعدتها بزيارة قريبة بإذن الله، نتبادل بها الحديث عن أي شيء تحبه، وأعرف مسبقًا أن الحديث سيتمحور حول هاني فتى أحلام الماضي السحيق .
اذهب في طريقي، متسائلة عن رغبتي العارمة أن أنظر للسماء وابتسم وأتساءل بهدوء، ترى يا رب هذه رسالتك التي سألتك عنها بالأمس، حين كنت حزينة وتشككت في مدى محبتك لي، ومع ذلك تتركني ضحية لإفتراس كل هذا الضيق والهم رغم استعانتي بك؟.
بالأمس سألتك أن تخفف عني وتشككت بحبك لي، واليوم ترسل لي طنط "أم سعدية"، مرسالًا عنك، حيث أنزلت عليها رحمتك بتنسيق كلمات محددة، تسوقها إلى رغم جنونها المعهود، ترى أتحبني لتلك الدرجة حقًا، أم أن كل هذا استدراج عقلي مني، وما الأمر إلا مجرد صدفة؟.. ربما كل هذا مدرج تحت الحقيقة العلمية، التي تقول إن الكون يطبطب على استحياء أحيانًا.
يا رب حتى لا أطيل عليك.. أعلم أن هذا جنون، وربما سذاجة، وربما الأقرب أن يكون طمعًا كبيرًا، لكني متشككة إلى أبعد حد وأنت أعلم بهذا بالتأكيد، فأنت من ركبت تلك الخلطة الجهنمية المسماه أنا، لكن أنا لا زلت بانتظار علامة أخرى تؤكد لى أن طنط "أم سعدية" كانت علامة بالاساس.
ابتسم من جديد، وانطلق بيوم آخر عاري تمامًا عن أي خطط، تجعله يومًا مختلفًا، سوى أني سأفعل كل ما استطيع لأصل إلى المكتب بأسرع وقت ممكن، وبعدها فليكن ما يكون.. لكن هذه المرة، برضا تام عن كوني مررت بهذا اليوم، وإن كان عاري تمامًا عن أي خطط تجعله مختلف، فقد حافظ على كونه مختلف، لمجرد ملاقاتي طنط "أم سعدية" بهذا الصباح الحاني.