إصلاح «الموظف» يبدأ بتحسين «بيئة العمل»
تحسين بيئة عمل الموظف
ما بين موظف مقهور فى عمله، ومواطن يعانى من بلادة الموظف وعدوانيته.. تمضى الحياة فى مصر.. لكنها لا تتقدم أبداً إلى الأمام بسبب انهيار شروط وأخلاقيات بيئة العمل على كل المستويات.
اذهب إلى أى مصلحة لإنجاز أى طلب، أو تلفت حولك وراقب جيداً الموظفين والعاملين فى كل المؤسسات والهيئات والشركات، سواء كانت حكومية أو قطاع أعمال أو قطاعاً خاصاً، لن تلمح فى وجوه العاملين بها غير الكآبة والجهامة، ولن ترى فى عيونهم غير نظرات متبلدة أو عدوانية.
وإذا كنت واحداً ممن يعملون وتعرف جيداً معنى القهر فى بيئة العمل، فلا بد أنك تعرف أيضاً معنى إزاحة هذا القهر على كل من تصادفه فى طريقك إذا شعرت أنه أضعف منك، أو إزاحته حتى على أفراد أسرتك. وليس غريباً، أبداً، أن تعترف موظفة -فى هذا الملف الذى أعدته «الوطن» عن أمراض بيئة العمل- بأنها اعتادت أن تعود من عملها لـ«تفش غلها فى أبنائها، وأن الضغوط الرهيبة التى تتعرض لها كانت سبباً فى أن تكتشف بعد وصولها إلى البيت أنها نسيت إحضار طفلها من الحضانة».
فى كل بلاد الدنيا التى تنظر إلى العمل بوصفه الشرط الضرورى لتحسين حياة البشر والارتقاء بجودة حياتهم ومعاشهم وصحتهم وسعادتهم، يذهب الموظفون إلى أعمالهم وليس فى قلوبهم هذه الحسرة التى تنتابنا ونحن فى الطريق إلى جهات عملنا.. وقد انتبهت الحكومة المصرية، مؤخراً، إلى أن بيئة العمل المريضة لن تصلح معها أى خطط اقتصادية لرفع الإنتاج أو تحسينه، فالموظف المقهور الذى يعمل تحت ضغط الخوف من الفصل والتشريد، لن يصلح معه تدريب أو زيادة أجر، والطبيب الذى يقضى 36 ساعة «نوبتجى» فى مستشفى حكومى أو خاص، ولا يجد مكاناً لائقاً للجلوس أو النوم أو الأكل أو قضاء الحاجة، لن يكون أميناً إطلاقاً فى علاج المرضى مهما رفعنا موازنة الصحة.
وفى هذا الملف سنكتشف -مثلاً- أن وظيفة الجهاز الإدارى فى البلاد المتقدمة هى إسعاد المواطنين الذين يترددون عليه.. وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا إذا كان الموظف نفسه سعيداً ومطمئناً وآمناً ويعمل فى مناخ سليم صحياً ونفسياً.. ولهذا سنعرف لماذا تفشت فى مصر كل هذه العذابات التى يعانيها المواطنون فى مصالح حكومية مثل مكاتب البريد والشهر العقارى ومجمعات المصالح فى المحافظات وإدارات التموين والمستشفيات العامة.. ونظرة خاطفة على الأماكن التى يعمل بها الموظفون ومكاتبهم ومقاعدهم ودورات المياه التى يستخدمونها كافية تماماً لأن تعلم من أين تنبع كل هذه الكراهية المتبادلة بين الموظف ورئيسه، وبين المواطن والموظف، وبين المواطن وكل من يصادفه فى حياته اليومية؟!
وفى ظل هذا الانهيار المخيف فى كل شروط بيئة العمل المناسبة، لم يعد مدهشاً أن تعثر على «مدونة سلوك وظيفى» شديدة السوء، تفشت فى كل أماكن العمل بلا استثناء.. ولأن كل هذه الأمراض كانت الأكثر شيوعاً فى العديد من دول العالم -المتقدمة والمتخلفة- فقد رصدها كاتبان أمريكيان قبل أكثر من 20 عاماً وأصدرا كتاباً ذائع الصيت بعنوان «القوانين الـ48 للقوة»، تحول فى غمضة عين إلى أكثر الكتب العالمية مبيعاً، لأنه باختصار مجرد كتالوج للنجاح الوظيفى فى مناخ عمل «بلا أخلاق ولا رحمة».
والشاهد أن العالم المتقدم فى طريقه لأن يتعافى إلى حد كبير من انهيار بيئة العمل، وأن يرحم مواطنيه من تعاسة ووحشية بيئات العمل، خصوصاً بعد أن تأكدت النخبة الإدارية من أن إصلاح بيئات العمل هو الشرط الأساسى لزيادة الإنتاج وجودته، والحال كذلك، هل نلحق بركب بيئات العمل الجيدة إذا كنا حقاً نسعى إلى زيادة الإنتاج.. وإذا كنا نهدف -قبل الإنتاج وبعده- إلى إسعاد الموظف والمواطن معاً.. أو على الأقل إلى تخفيض معدل قهره وتدمير معنوياته؟!