هانى سرى الدين يكتب.. كيف نواجه هذه الظاهرة الخطيرة؟

هانى سرى الدين يكتب.. كيف نواجه هذه الظاهرة الخطيرة؟
فى أعقاب ثورة 25 يناير تمت إحالة الكثير من المسئولين فى شتى القطاعات الاقتصادية كالإسكان والبترول والتجارة والصناعة والسياحة إلى النيابة العامة، وتمت إحالة العديد من الوزراء ورؤساء الهيئات إلى المحاكمات الجنائية، وصدر ضد البعض أحكام بالإدانة، وصدر ضد الآخرين أحكام بالبراءة، ولا يزال العديد من المسئولين قيد التحقيقات أو الإجراءات الاحترازية كالمنع من السفر والحظر من التصرف فى أموالهم هم وذووهم. وتزامن مع ذلك بطبيعة الحال توجيه الاتهامات إلى العديد من المستثمرين ممن كانت لهم تعاملات وتعاقدات مع الحكومة والهيئات العامة.
• وتوالت البلاغات عن شبهة فساد أو إهدار للمال العام، وبعض هذه البلاغات اشتمل على أقوال مرسلة أو قصاصات من الصحف، وبعض البلاغات تم إرسالها عن طريق الفاكس، أو تم تقديمها عن طريق وكلاء. وقد تعاملت النيابة العامة بجدية مع كافة هذه البلاغات حتى ولو لم تكن معلومة المصدر أو خالية من أى بيانات أو مستندات داعمة.
وقد استندت النيابة فى ذلك إلى واجبها الدستورى والقانونى فى تحقيق البلاغات المقدمة إليها. كما اقتضت اعتبارات الملاءمة -من وجهة نظر النيابة- أن تحقق فى كافة هذه البلاغات حتى لا تتهم بالمحاباة للنظام السابق، أو التستر على الفساد، وهو ما جعل سلطات التحقيق فى موقف المدافع عما ارتأته فى بعض القضايا، وترتب على ذلك تكليف أجهزة المباحث والرقابة الإدارية بالتحقيق فى هذه البلاغات، التى بلغت عشرات الآلاف على أقل تقدير. وهو الأمر الذى أدى إلى وقوع كافة العاملين بالجهات الإدارية تحت سيف التهديد المستمر بالإحالة إلى المحاكمات الجنائية. وبناءً عليه، ارتكن الكافة إلى عدم اتخاذ قرارات إدارية خاصة بتسيير العمل لتجنب الوقوع تحت أنياب القانون الجنائى، وفضل البعض اتخاذ قرارات بإنهاء تعاقدات أو سحب أراضٍ أو تراخيص حال وجود أى خلافات أو تفسيرات متعلقة بتنفيذ العقود، لتجنب أى مساءلة جنائية فى الحال أو المستقبل.
• وقد اعتمدت النيابة فى مساءلة المسئولين الإداريين على أحكام قانون العقوبات المتعلقة بجرائم العدوان على المال العام، وبخاصة ما يسمى بجرائم «التربح» و«الإضرار بالمال العام».
ويواجه المسئولون التهديد المستمر بالإحالة إلى محكمة الجنايات غير مدعومين بظهير سياسى أو قانونى يؤهلهم لاتخاذ القرارات الصحيحة التى تتفق مع المصلحة العامة أو إنفاذ العقود وفقاً لشروطها وأحكامها. بل ذهب الأمر ببعض المسئولين إلى التحايل بغرض عدم تنفيذ أحكام قضائية واجبة النفاذ صادرة عن محاكم القضاء الإدارى والعادى، حيث إن هناك بلاغات تتهمهم بالتواطؤ وعدم الدفاع الجدى عن مصالح الهيئة التى يتبعونها، وكأن مهمة الدفاع والمرافعة أمام المحاكم منوطة بهم! ففضلوا عدم تنفيذ الأحكام وفضلوا تهديدهم بعقوبة الحبس لعدم تنفيذ حكم قضائى بدلاً من تهديدهم بالسجن المشدد نتيجة اتهامهم بتسهيل الاستيلاء على المال العام أو تربيح الغير.
• ويضاف إلى ما تقدم وجود رأى عام عدائى، ومبالغة إعلامية أحياناً فى توصيف الفساد الإدارى والمالى، وشاع الخلط بين ما هو مشروع وما هو غير مشروع، ناهيك عن انتشار قرارات إدارية وبيروقراطية عقيمة يمكن تفسيرها تفسيرات متعددة، ما يجعل الوصول إلى قرار موضوعى حاسم أمراً شبه مستحيل.[SecondImage]
وهكذا.. أصبح المسئول الإدارى أسيراً للتهديد بالوقوع تحت طائلة جرائم العدوان على المال العام وضغوط الأجهزة الرقابية وانعدام الدعم السياسى والحكومى، مقيداً بقوانين وقرارات بالية، ورأى عام عدائى، وحالة هيستيرية من البلاغات العشوائية.
فكانت المحصلة «الأيادى المرتعشة» فى الجهاز الإدارى للدولة، ومظاهرها كالآتى:
1- امتناع أى وزير أو رئيس هيئة عن اتخاذ قرارات بمنح تراخيص أو تجديد عقود أو الدخول فى تعاقدات جديدة أو طرح مشروعات، خشية المسئولية الجنائية وتحرش الرأى العام والجهات الرقابية به.
2- للأسباب ذاتها انتشرت ظاهرة إلغاء العقود وسحب الأراضى والتراخيص، بل والامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية أياً كانت النتائج المالية والاقتصادية والاجتماعية حال وجود أى شكوى جدية كانت أو كيدية أو توصية من أى موظف فى إحدى اللجان، مختصاً كان أو غير مختص، بوجود شبهة مخالفة تعاقدية.
3- انتشار النزاعات القضائية والتحكيمية، والتوقف الجدى عن حسم أى من هذه المنازعات لحين صدور أحكام قضائية وتحكيمية واجبة النفاذ، حتى ولو ترتب على ذلك توقف المشروعات وإحداث أضرار مالية للدولة والمستثمر وإساءة لسمعة مصر.
4- تعطل دولاب العمل فى كافة الجهات الحكومية، وإصابة الاستثمار المحلى والأجنبى فى مقتل، فصارت مصر من أقل الدول الجاذبة للاستثمار، ومن ثم انخفض معدل النمو بشكل غير مسبوق، وانهار معدل التشغيل لتفشى حالة من «الاستعباط» -إن جاز التعبير- لدى بعض المسئولين لتفادى القيام بمهامهم بدعوى الخوف من المسئولية.
5- انتشار معدلات الفساد بشكل غير مسبوق، طبقاً للمؤشرات الدولية، فالمقابل غير المشروع يرتفع مع زيادة صعوبة مناخ العمل، وعدم انضباط النظام القانونى داخل الدولة.
المعضلة أننا صرنا نواجه تعارضاً أو تناقضاً -من صنع أيدينا- بين محاربة الفساد وتشجيع الاستثمار، وصرنا فى طريق خاطئ لمحاربة الفساد، فأصبحنا وكأن الطريق الوحيد لمحاربة الفساد هو القضاء على الاستثمار، فصرنا نكافح ضد الأمرين معاً؛ الفساد والاستثمار، فكانت النتيجة تزايد معدلات الفساد وانخفاض معدلات الاستثمار بشكل غير مسبوق.[FirstQuote]
وتتنوع أسباب ما نعانيه الآن من ظاهرة الأيادى المرتعشة وتعطل العمل، ويمكن تحليل هذه الأسباب على النحو الآتى:
1- عدم انضباط الإطار القانونى بشأن المحاسبة الجنائية فى جرائم الأموال العامة:
إزاء عدم وجود إطار تشريعى منضبط للمحاسبة على الفساد السياسى، وإزاء انعدام تحريات وأدلة جدية لإثبات هذا الفساد وما ارتبط به من فساد مالى واستغلال للنفوذ، وإزاء ضغط الرأى العام على ضرورة محاسبة رموز النظام السابق (حدث ذلك فى أعقاب ثورة 25 يناير، ويتكرر الآن بعد ثورة 30 يونيو) كان لا بد من التحرك بشكل أو آخر، فكان الارتكان إلى أحكام قانون العقوبات، وبخاصة «العدوان على المال العام»، وعلى الأخص المادتان (115) و(116 مكرر) من قانون العقوبات بشأن التربح والإضرار بالمال العام على التوالى. وشاهدنا ظاهرة إحالة العديد من المتهمين على أساس تربيح الغير من المستثمرين، وقد خلت الأوراق من أدلة تفيد تحقيق أى منفعة أو حصول رشوة لأى من المسئولين، وهو ما يبرر هذا السيل من أحكام قضائية صدرت بالبراءة، وأصبح القضاء من وجهة نظر الرئيس المعزول «محمد مرسى» وجانب من الرأى العام هو المسئول الأول عن ذلك! ولا يوجد نظير فى أى تشريع مقارن لمثل هذه الأنواع من الجرائم التى نواجهها فى مصر.
وصار الحل المريح لجانب من سلطات التحقيق والأجهزة الرقابية الإحالة إلى محاكم الجنايات لإخلاء مسئوليتهم أمام الرأى العام، لتفادى اتهامهم بالمحاباة للنظام السابق، أو عدم قدرتهم على مواجهة الفساد، على الرغم من أن الفساد لا يزال قابعاً فى كل القطاعات؛ متفشياً فى جذور كافة مؤسساتنا الإدارية والحكومية.
2- المحاكمة الجنائية وتوجيه تهم العدوان على المال بشأن منازعات تعاقدية:
ويتعارض هذا التوجه مع الاتفاقات والمعاهدات الدولية، ومنها معاهدات وقعت عليها مصر وصارت جزءاً من نظامنا القانونى، تحظر المسئولية الجنائية بشأن منازعات ناشئة عن تنفيذ عقود أبرمت صحيحة وفقاً لأحكام القوانين السارية. فأخرجنا المنازعات التعاقدية المرتبطة بالمعاملات التجارية والمدنية من إطارها الطبيعى، وأدخلناها فى دائرة القانون الجنائى. فصار الخلاف بشأن عقد مع الحكومة سبباً كافياً لتحريك الدعوى الجنائية طبقاً للمادة (116) مكرر (أ) من قانون العقوبات. وأتحدى أن يكون لهذا النص مثيل فى أى تشريع عقابى فى عالمنا المعاصر.
3- عدم اتخاذ أى إجراءات إصلاحية حقيقية لمعالجة القصور القائم فى النظم الإدارية والتشريعية الحالية:
فحتى هذه اللحظة لا تزال أسس وآليات التعاقد هى ذاتها التى كانت موجودة فى ظل النظم السابقة، كما لا تزال ذات أسس التصرف فى الأراضى كما هى دون تعديل، كما أنه لم يطرأ أى تعديل جوهرى على نظم تسعير الأراضى وآليات تقييمها، كما لم يجرِ تنقيح للوائح الإدارية بما فيها من تشوهات. فعلى سبيل المثال، لا تزال لوائح هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة تحظر تسويق الوحدات العقارية قبل اكتمال المشروع! وهو ما يعنى استحالة الاستثمار العقارى وتطبيق اللائحة، فكانت النتيجة أن الجميع يخالف تحت سمع وبصر الوزارة والهيئة والبنوك والأجهزة الرقابية، ومع ذلك يمكن فسخ التعاقد أو سحب الأرض أو الإحالة إلى محكمة الجنايات فى حالات بعينها إذا ارتأت الهيئة الضغط على المستثمر لتحصيل بعض الأموال الإضافية. كما تنص اللائحة العقارية على سحب الأرض فى حال التعثر فى سداد قسطين متتاليين، وكان هذا النص قائماً عند التقسيط على أربعة أقساط، أما وقد تم تعديل نظام السداد ليصبح فى بعض الحالات على عشرة أقساط أو أربعين قسطاً، فإنه لم يتم تعديل اللائحة، ولا توجد نصوص تتعلق بأثر الأزمات المالية العالمية أو الكساد أو القوة القاهرة، فصار مباشرة أى سلطة تقديرية عند التعثر وعدم سحب الأرض فى الحال سبباً كافياً لإحالة المسئول إلى محكمة الجنايات لعدم سحب الأرض حتى ولو كان المسدد 80% من الثمن، وحتى ولو كان تنفيذ المشروع وفقاً لخطته المتفق عليها! فكانت النتيجة موجة من سحب الأراضى ووقف الأعمال وتعطل مشروعات بمليارات الجنيهات؛ والأمثلة عديدة فى شتى القطاعات.
4- تداخل دور الأجهزة الرقابية والمحاسبية على نحو يحرم المسئول من مباشرة أى سلطة تقديرية:
وهو ما يجعل أى تصرف لا يتفق مع اللوائح أياً كانت جوهريتها -من وجهة نظر الجهة الرقابية-أساساً كافياً للمساءلة الجنائية. كما خضعت الأجهزة الرقابية بدورها لضغوط الرأى العام، فحاولت لغسل أيديها من تهمة التستر على الفساد أمام الرأى العام تقديم أكبر عدد من المسئولين للمحاكمات، ورأينا تقارير رقابية تعتمد فى توجيه الاتهام على أقوال مرسلة وقرائن لا تصل إلى مرتبة الدليل، فعلى سبيل المثال تستند بعض التقارير إلى وجود شبهة فساد على أن «مسئول العلاقات الحكومية فى الشركة المعنية شوهد يتردد على ديوان الوزارة مرتين»! ومن أسف لا تظهر هذه التقارير إلا بعد خروج المسئول! وهناك إحدى الشركات اتهمت مسئوليها فى أعقاب ثورة 25 يناير أنهم من الفلول، واتهم جانب آخر من مسئولى الشركة ذاتها فى أعقاب 30 يونيو على أنهم من الإخوان. والمحصلة فى الحالتين الإضرار بمساهمى الشركة، وهى شركة مقيدة بالبورصة وبالعاملين بها. وبدا التوجه العام لدى الجهات الرقابية يميل إلى الإدانة فى جميع الأحوال، ففى إحدى الحالات أقر مندوب إحدى الأجهزة الرقابية فى أقواله أمام النيابة العامة بعدم وجود «قرائن أو أدلة تفيد وجود شبهة فساد أو ثمة تواطؤ بين رئيس مجلس إدارة الشركة المعنية والوزير المختص»، فبدا ذلك استثناءً للأصل، فلام المندوب نفسه على ما قرره فعاد إلى النيابة محاولاً تغيير أقواله!
وظهر كذلك تدخل قوى من هذه الأجهزة فى سير العمل اليومى للجهات الإدارية، ووجود مندوبين قائمين فى دواوين الوزارة، ومرشدين على نفس النسق الذى يعمل به المرشدون فى مجال تجارة المخدرات، ومن ثم لم يعد مناخ العمل ملائماً لاتخاذ أى قرارات مهما كان باعثها الصالح العام، ومهما كان يغلفها من حسن النية.[SecondQuote]
5- الضعف المؤسسى، والتدخل فى عمل خبراء جهاز الكسب غير المشروع بوزارة العدل، ما أفقد المصداقية فى هذه التقارير وجدوى الاعتماد عليها للوصول إلى الحقيقة، فتولدت القناعة لدى أصحاب المصالح المشروعة بأن الإحالة إلى هذه اللجان خطوة نحو الإدانة.
6- المزايدة السياسية والإعلامية للحصول على دعم الرأى العام:
فانتشرت ظاهرة المبالغة فى الأرقام والمخالفات، ما يمثل ضغطاً شديداً على المسئولين الحكوميين للتعاطى مع أى من المشكلات القائمة أو اتخاذ القرار السليم المحقق للمصلحة العامة، خشية إثارة الرأى العام عليه. فكثيراً ما ينشر أن الشركة الفلانية تأخرت فى تنفيذ المشروع، وأن المسئول لم يسحب التراخيص، وأنه لو سحبها وأعاد بيعها بسعر اليوم لحققت الهيئة مليارات الجنيهات، فيبدأ الجميع فى الحديث عن مليارات الجنيهات ولا يتساءل أحد عما تم استثماره بالفعل وما تم ضخه من أموال، وما أسباب التأخير، وهل الحكومة مسئولة عنها أم لا، بل انتشرت ظاهرة محاولة إعادة التفاوض على العقود لمحاولة الحصول على بعض الأموال للدولة لكى يزايد هذا المسئول أو ذلك، ليثبت للرأى العام أنه هو القائم على حماية المصلحة العامة، وأن كل من سبقوه ساهموا فى الفساد.
7- تعاطى الحكومات المتعاقبة منذ ثورة 25 يناير مع المسألة بقدر من السطحية:
يضاف إلى ذلك ضعف الإرادة السياسية للتصدى لهذا الأمر، خشية إثارة الرأى العام أو الاتهام بالتعاطف مع رموز الفساد أو المساءلة الجنائية، فارتكنت معظم هذه الحكومات إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه أو تقديم بعض المسكنات التشريعية التى فاقمت من الأزمة فى رأيى، فلم تصلح مواد التصالح فى جرائم العدوان على المال العام للحد من المشكلة، بل استخدمت فى بعض الأحيان كوسيلة للضغط على المستثمر، فتزايد الشعور بعدم الثقة فى أجهزة الدولة فكانت محصلة هذه السياسات جميعها إدراك المسئولين الحكوميين أنهم قد تم تركهم ليواجهوا مصايرهم -دون دعم سياسى أو حكومى- حال وجود بلاغات أو تحريات أو اتخاذ إجراء قد يفسر على أنه عدوان على المال العام، فزاد ميلهم نحو اتخاذ قرارات قد تروق للرأى العام بدعوى محاربة الفساد، أو الارتكان إلى السكون وعدم اتخاذ أى قرارات على الإطلاق فى أحسن الظروف، ما أدى إلى تزايد الفساد وانحسار الاستثمار، وتعطل دولاب العمل، وتعريض مصر لخسائر قد تصل إلى ما لا يقل عن 20 مليار دولار، وتعطل ما لا يقل عن مليون مصرى عن العمل. وأصبح من المألوف أن يفاجئك وزير أو حتى رئيس وزراء بالقول: «أنت معك حق فى كل ما تقول، لكن لو اديتك حقك أكون تانى يوم فى السجن. ارفع تحكيم أو قضية وأنا ح انفذ لك الحكم»، فتقول: «ولكن حكم التحكيم سيكلف الدولة ملايين الدولارات»، فيرد عليك: «أنا مش ح أبقى موجود وقت صدور الحكم». بالمناسبة هذا حوار حقيقى دار مع أحد الوزراء السابقين!
آليات الحل
قد يقفز البعض إلى النتائج، وقد يزايد البعض على ما عرضت عاليه، فيبادر إلى القول: وهل تريدون ترك الحبل على الغارب؟ هل تريدون ترك الفساد واستفحاله؟ هل تريدون حماية رموز الفساد ومكافأتهم؟ هل تريدون أن يسيطر الفساد على مصر دون محاسبة؟ هل تريدون بدعوى حماية الاستثمار استمرار الإضرار بالمال العام والعدوان عليه دون محاسبة أو مساءلة؟ هل تريدون تحت دعوى حماية الاستثمار وتشجيعه أن يستولى المقامرون وأصحاب النفوذ على قوت الشعب المصرى وأراضيه ويحققون أرباحاً بالمليارات دون أداء حق الدولة؟
فنجيب إجابة واضحة ومحددة: لا نريد أى شىء من ذلك، بل نريد ضرورة الإصلاح لمحاربة الفساد بشكل جدى، ونسعى فى ذات الوقت لتشجيع الاستثمار والتشغيل وتحقيق التنمية، فلا تعارض بين الاستثمار وإنفاذ العقود من ناحية، وبين مكافحة الفساد من ناحية أخرى، فالأمران متلازمان ومكافحة الفساد بشكل مؤسس وقانونى شرط أساس لتشجيع الاستثمار وتحقيق التنمية. ولكن أيضاً لا يمكن محاربة الفساد وتحقيق الاستثمار فى ظل نظام إدارى ضعيف ومسئولين حكوميين معرضين للمساءلة الجنائية الفضفاضة المسيسة، فالنتيجة أيادٍ مرتعشة، وإضرار بالمال العام ومصالح الدولة. نريد محاسبة ومساءلة الفاسد عن فساده، فالمشكلة عندنا الآن ليست فى المشكلة ولا أسبابها، فالجميع -على ما أعتقد-متفق عليها، وإنما المشكلة فى طريقة التفكير وكيفية الخروج من هذا المأزق، كيف ندعم المسئول الحكومى فى اتخاذ القرار الذى يحقق المصلحة العامة؟ كيف نحد من المسئولية الجنائية المسيسة؟ كيف نفصل بين المخالفة الإدارية والمخالفة الجنائية ويكون لكل منهما إطاره القانونى المحدد؟ كيف نحمى المستثمر حسن النية الذى استثمر وفقاً للقوانين السارية، وأدى ما عليه؟ كيف نعيد الثقة فى جهازنا الإدارى، والقضائى، ومناخ الاستثمار؟ كيف تكون المساءلة وقواعدها حاسمة ورادعة دون جور أو ظلم؟
ما نحتاج إليه فى رأيى مجموعة من الآليات العاجلة بعضها تشريعى وبعضها الآخر إدارى وتنظيمى، مثل:
- ضرورة تعديل المواد الخاصة بقانون العقوبات فيما يخص جريمتى التربح والإضرار بالمال العام، بإضافة نص جديد يحول دون معاقبة الموظف العام بشأن تربيح الغير أو الإضرار بالمال العام، ما لم يكن سلوكه مقروناً برشوة.
فأى مخالفات قد يرتكبها الموظف العام فى هذا الإطار ما لم تكن مقرونة برشوة أو منفعة تعود عليه أو على ذويه، فإنها لا تعد جريمة جنائية. إن الإفراط فى الاتهامات الجنائية لن يحقق أى حماية للمال العام. إن المسئول الذى يربح الغير دون نفع له أو لذويه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أياً كان شكل المنفعة يجب مساءلته فى مستشفى المجانين وليس المحكمة الجنائية!
وجدير بالذكر أن التعديل الذى نقترحه لا يتضمن مساساً بالمال العام، فالمادة (116) مكرر (أ) من قانون العقوبات تعاقب بالحبس كل موظف عام يتسبب بخطئه فى إلحاق ضرر جسيم بالمال العام، إذا كان ذلك ناشئاً عن إهمال فى أداء وظيفته أو إساءة استعمال السلطة. كما أن هناك عديداً من المواد الأخرى التى تحافظ على المال العام، إلا أن نصوصها وأحكامها جاءت أكثر انضباطاً من المادتين (115) و(116 مكرر)، وكذلك المادة (116) مكرر (جـ)، التى سيؤدى تطبيقها بحذافيرها إلى تكدس السجون المصرية بالمقاولين والموردين والمستثمرين، إذ تعاقب هذه المادة بالسجن كل من أخل عمداً بتنفيذ كل أو بعض التزاماته التعاقدية بشأن عقد مقاولة أو نقل أو توريد أو التزام أو أشغال عامة مع إحدى الجهات أو الهيئات العامة أو مع إحدى شركات المساهمة!
إن هذه المواد هى التى تحتاج إلى إعادة النظر، وقد أضيفت إلى نظامنا القانونى عام 1975، فمع احترامى الشديد لحكومة الدكتور الببلاوى، فإننا لا نحتاج إلى قوانين لحماية الموظف العام حَسَن النية «على حد تعبير البيان الصادر عن مجلس الوزراء»، لنفتح باباً من التفسيرات والتأويلات القانونية والسياسية ستزيد من الاضطراب القانونى السائد، وتزيد الطين بلة. لا نريد مزايا لأحد ولا حماية لأحد فوق القانون، نريد فقط المساواة ووضوح المسئولية، وفقاً لقواعد عادلة ومحددة ومنضبطة شأننا فى ذلك شأن كل دول العالم المتحضر.[ThirdQuote]
- تغليط العقوبات الإدارية والمدنية على الأخطاء والمخالفات الإدارية التى يترتب عليها الإضرار بالمال العام، حتى ولو كانت مصحوبة بحسن النية.
- تفعيل قانون محاكمة الوزراء لمساءلتهم السياسية حال ارتكابهم أخطاء جسيمة فى مباشرة عملهم لا ترتبط بجرائم جنائية.
- لا يجوز التجريم الجنائى للمخالفات التعاقدية، ما لم تكن هذه المخالفات مقرونة بارتكاب جريمة كالتزوير، أما التأخر فى التنفيذ أو السداد فهو يثير المسئولية المدنية والإدارية. ويجب أن ينص على هذا المبدأ فى الدستور ذاته.
- تغليظ العقوبة على جرائم البلاغ الكاذب المتصلة بجرائم العدوان على المال العام، فلا يجب أن نترك الحبل على الغارب لتشويه السمعة، والتأثير السلبى على العمل الحكومى، فهذا هو عين الإضرار بالمال العام.
- تكليف الوزارات المعنية، وبخاصة الزراعة والبترول والإسكان والصناعة والسياحة، بتنقيح لوائحها ونظم العمل بها مما يشوبها من فساد وبيروقراطية وغموض، وبخاصة فيما يتعلق بطرق التعاقد، وتسعير الأراضى، والالتزامات المالية؛ على أن يعرض الأمر على مجلس الوزراء والأجهزة الرقابية المختصة والرأى العام خلال شهر، لعرض ما تم اتخاذه من إجراءات ومبرراتها لضمان الشفافية وحماية المال العام.
- إعادة النظر فى طرق وآليات عمل الأجهزة الرقابية، وبخاصة الرقابة الإدارية، والجهاز المركزى للمحاسبات، وأهدافها، وطرق تقييم أدائها، مع تفعيل تقاريرها ومناقشتها علانية، فلم تعد طريقة العمل الحالية مناسبة للحد من الفساد ولا مكافحته.
ويجب تفعيل مشاركة ممثلى هذه الجهات فى أى تعديلات تشريعية تتعلق بالمسئولية والمحاسبة الإدارية، والتعامل مع ملاحظاتها وتوصياتها بالجدية الكافية.
- تكليف وزارة العدل بإعادة هيكلة إدارة الخبراء بـ«الكسب غير المشروع»، وإعادة التدريب، وتكريس الاستقلالية، ذلك إذا كنا جادين فى تحقيق العدالة أمام المحاكم.
- تفعيل دور لجنة فض المنازعات بهيئة الاستثمار، ولجنة تسوية عقود الاستثمار، والتعامل مع ما يعرض عليها بشكل فورى وحاسم، والإفصاح عن قراراتها وآلية العمل بها، وتمثيل الأجهزة الرقابية بهذه اللجان لفترة انتقالية، لحين تسوية كافة المنازعات القائمة خلال عام على الأكثر. ويجب الإعلان عن كافة هذه المنازعات وظروفها وأسبابها وقرارات هذه اللجان.
- إعادة النظر فى تمثيل مصر أمام هيئات التحكيم الدولية، وتشكيل لجنة وزارية قانونية لتقييم الموقف القانونى للقضايا المرفوعة من وضد الحكومة المصرية، مع التسوية الودية لكافة هذه المنازعات متى اقتضت المصلحة العامة ذلك، فكفانا إساءة لسمعة مصر حتى أصبحنا على قائمة الدول الطاردة للاستثمار وأكثرها فساداً فى ذات الوقت!
- التواصل مع الرأى العام والإعلام بشكل صحيح، فيجب الإعلان عن كافة المعلومات بشكل دقيق ودورى، ويجب أن تكون هذه المعلومات صحيحة وكافية، وأن تصدر فى الوقت المناسب، فالثقة لا تنشأ إلا بالتواصل والشفافية.
نحن قادرون على إنهاء حالة «الارتعاش الحكومى» إذا خلصت النيات، وتوفرت الإرادة السياسية الحقيقية. يجب أن تكون الحكومة جزءاً من الحل وليست جزءاً من المشكلة.
*أستاذ القانون التجارى
كلية الحقوق - جامعة القاهرة