رغم أن المصريين دأبوا على تغيير دياناتهم، ومذاهبهم الإسلامية أكثر من مرة، فإن ذلك لا يعنى التأرجح، قدر ما يعنى انشغال هذا الشعب بالبحث عن المتفق عليه. فجوهر الأديان واحد فى نظر المصريين، وبالتالى يميل شعبنا إلى التوقف أمام المعانى الكبرى التى يحملها الدين.. أى دين، وربما كان ذلك هو السر الأكبر فى عدم قدرة أى شخص أو فصيل أو جماعة على الضحك على هذا الشعب بمجرد رفع راية الدين، أو المتاجرة عليه بشعارات دينية. الشعب فى مثل هذه الأحوال يمكن أن «يهاود»، ولكن يظل «اللى فى القلب فى القلب».
والنموذج العبقرى الذى يعكس طبيعة «التدين» المصرى يتجسد فى ما أبداه هذا الشعب من تفاعل مع الفاطميين «الشيعة»، رغم أصالة المذهب السنى فى مصر منذ أن فتحها عمرو بن العاص، ثم مفارقة هذا المذهب الشيعى دون عنت فى عهد صلاح الدين الأيوبى. لقد قبل المصريون الخلافة الفاطمية التى أسسها المعز لدين الله الفاطمى فوق ترابهم، عندما وجدوا فيه حاكماً عادلاً، ساهم فى إصلاح أحوالهم الاقتصادية، وحارب التحلل الأخلاقى الذى ساد فى زمن الدولة «الإخشيدية»، ولم يجدوا مانعاً فى قبول المذهب الشيعى، فهم محبون بالأصالة لأهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم، وأعجبتهم الحالة الجديدة التى صبغ بها «الفاطميون» الحياة المصرية، من خلال ما ابتكروه من مواكب واحتفاليات تناغمت مع ما وقر لدى المصريين من حب للحياة.
والمفارق فى الأمر أن المصريين أفلحوا بمرور الزمن فى صبغ «الفاطميين» بالصبغة المصرية، لأن المعز لدين الله الفاطمى وخلفاءه، تملكتهم الرغبة فى التناغم مع المزاج المصرى، فاحتفلوا مع المصريين بعيد النيروز والغطاس والربيع وخميس العهد، وبعض هذه الأعياد قبطى، والآخر فرعونى، بل وأضافوا إلى الإنسان المصرى «الدينيوى» أشكالاً جديدة من الاحتفاليات، مثل الاحتفال بالموالد وإحياء ليالى شهر رمضان وليالى العيد، وكان يتصدر المواكب الاحتفالية بهذه الليالى أرباب الحرف والصناعات والمهن ليعرضوا ما لديهم من مفاخر وإنجازات.
استمر الحكم الفاطمى فى مصر ما يقرب من قرنين من الزمان، ومع ذلك لم يبذل المصريون جهدا مذكوراً فى نسيان التشيع وتحويل الأزهر الذى أنشئ كمدرسة لتعليم الفقه الشيعى إلى منارة لتعليم الفقه السنى، ومع ذلك فقد احتفظ المصريون بعد ما يقرب من ثمانية قرون بالطقوس التى تعودوا عليها فى ظل الحكم الفاطمى، خصوصاً تلك التى تصب فى إطار رؤيتهم «الدنيوية» لـ«الدين»!.