خلطة عجيبة استطاع هذا الشعب الضارب فى أعماق التاريخ البشرى أن يبتدعها ليجمع ما بين الدين والدنيا فى قالب واحد، إلى حد لا تستطيع معه أن تقرر هل الإنسان المصرى متدين بطبعه، كما يزعم الكثيرون، أم هو إنسان دنيوى حتى النخاع. وواقع الحال أنه لا هذا ولا ذاك، فالشعب المصرى يجمع ما بين هذين النقيضين، فهو ببساطة يمكن أن يضحى بحياته فى سبيل ما يؤمن به، وهو بالمقابل لا يتوانى عن تجاوز أى قيمة دينية، مهما كانت محورية فى تدينه المزعوم، فى سبيل تحقيق المنافع الدنيوية، فالمصريون ليسوا «ديّانون» ولا «دنيويون»، بل يصح أن نصفهم بـ«الدينيويين»!.. هكذا نحن؛ رجالاً ونساءً.
فوق أرض المحروسة يلجأ أغلب «المتدينين» إلى إطلاق لحاهم ونحت «زبيبة الصلاة» فى جباههم، ليمنحوا من ينظر إلى وجوههم أمارة لا تخطئ وعلامة لا تحتمل اللبس على التدين.. كذلك يفعل الإخوان، والسلفيون، وغيرهم من المصريين الذين يتدينون خارج هذين «القفصين»، وأستطيع أن أراهن بمنتهى الارتياح أن أية دولة إسلامية لا يوجد فيها هذا العدد من «الدقون» التى تنتشر فى مصر. ولو أنك زرت المملكة العربية السعودية، مهد الإسلام والأرض التى بعث فوق ترابها النبى محمد (صلى الله عليه وسلم)، وحاولت أن تحصى عدد «الدقون» التى يمكن أن تقابلها فى أى شارع تتجول فيه، فلن تظفر بحال بما يعادل عدد الذقون التى يمكن أن تقابلها فى أى زقاق أو حارة من حوارى مصر. فـ«الدقن» هناك -كما هو الحال فى العديد من الدول الإسلامية الأخرى- لا تظهر فى الأغلب إلا لدى الشيوخ من كبار السن الذين يتعاملون مع إطلاق اللحية كموروث ثقافى وقبلى، أو لدى الدعاة والمشايخ الرسميين!
فمصر تتفوق على غيرها من الدول العربية والإسلامية فى عدد من يطلقون لحاهم قياساً إلى إجمالى عدد الذكور بها. أما «الزبيب» فحدث ولا حرج! فبعض المصريين يبدون وكأن رأسهم «زبيبة»، كذلك تجد الموظف والتاجر والطالب والصانع والزارع والعامل، أينما ذهبت أو تجولت ستجد أن الذقن والزبيبة مَعلماً من معالم الوجه الذكورى للكثير من المصريين. تلك «الدقن» وهاتيك «الزبيبة» لا تتوانى عن الحلف بالكذب، والمخادعة بالدين، والسرقة والنصب على عباد الله، ونفاق السلطة والسلطان، والهروب من المشكلات، وجمع الأصوات الانتخابية، والالتفاف على أحلام الناس.
الكثير من أصحاب «الدقون» كذلك حتى لو كانوا إخواناً أو سلفيين، إلا من رحم ربى. ولو أنك سألت أياً منهم عن تبريره لهذا السلوك «الدينيوى» فسوف يرد عليك قائلاً: «حعمل إيه؟ الناس كلها كده». فعبر التمحك بالسائد الاجتماعى يتذرع المصرى لتلك السلوكيات التى لا تعبر عن المعنى الحقيقى للدين، بل تتخذ من الجوانب المظهرية للتدين وسيلة للتناقض مع القيم الأصيلة للدين، بهدف التناغم مع الثقافة الاجتماعية. وعندما يطل المجتمع بوجهه تتوارى قيم الدين من حياة المصريين وتولّيهم الدبر!