يخطئ من يظن أن بإمكانه الضحك على المصريين بكلمتين فى الدين، يستوى فى ذلك الجماعات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان، والسلطة الحاكمة التى تتمحك هى الأخرى بالدين فى مناسبات عديدة، فهذا الشعب يؤمن بالحياة إيمانه بالله. أسهل شىء بالنسبة للإنسان المصرى أن يهز رأسه وأنت تلقى إليه بالمواعظ فى الدين، لكن عقله يكون شارداً فى الدنيا!. وقد تعجب إذا قلت لك إن حب هذا الشعب للدين هو جزء من حبه للدنيا، فالدين عنده آلة لتمرير «مرارة» الدنيا، فبأعياده ومواسمه تحلو الحياة لحظات أو أياماً، تستظل فيها المشاعر بنوع من الدفء والراحة، وتهنأ المعدة المشتاقة إلى أطايب الطعام، بما يعوضها الحرمان الذى تعانيه باقى أيام العام، وليس المصريون بدعاً فى ذلك، بل هم بشر عاديون عاقلون يفهمون المعنى الحقيقى للدين والدنيا، الدين عند المصريين أيضاً أداة من أدوات الهروب من نكد الدنيا، فعبر الآيات القرآنية الكريمة يفر المصريون من ظلم الدنيا متأملين عدل الآخرة، ومن جوع الدنيا ينطلق الحلم فى جنان الخلد، حيث تأتيك طيبات الطعام بمجرد التفكير فيها، ومن حرمان الدنيا وضياع القدرة على الزواج، تغازلك حوريات الجنة عبر آى القرآن الكريم.
من صميم الدنيا نشأ إيمان المصرى بالآخرة، وأصبح الموت بالنسبة إليه يعادل «كبة من دهب» -كما يقول المثل الشعبى- عندما تهزمه الدنيا، فيصبح لا منجى له إلا بطلب الآخرة. لذلك تعود المصرى أن يتعامل مع الدين بمزاجه الخاص وبأسلوبه الفريد. يكفى أن تشخص ببصرك إلى أية «مئذنة» مسجد حتى تشاركنى المعنى. لو أنك دققت فى «مئذنة الجامع» سوف تجد أنها تتشابه مع برج أى كنيسة، الفارق فقط بينهما هو الهلال فوق المئذنة والصليب فوق برج الكنيسة، ولو أمعنت النظر فيهما أكثر فسوف تكتشف أن أصلهما المسلة الفرعونية. يعنى المصرى الذى آمن بالمسلة كرمز للمعبد الفرعونى، لم يجد مشكلة فى أن يجعل منها رمزاً لإيمانه المسيحى، وجعلها -من بعد- رمزاً لإيمانه بالإسلام.
ثم تعالَ إلى شاهد آخر.. مؤكد أنك تسمع فى كل صلاة جمعة كلمة «آمين» -وهى اسم لفعل أمر معناه: اللهم استجب- التى يرددها المصريون بعد تلاوة فاتحة الكتاب، هل تعلم أن تلك الكلمة كانت تتردد فى معابد «آمون» فى مصر الفرعونية، عندما كان ينشد المتعبدون كلمة «آمون» بنفس النغمة بعد تراتيل الكهنة، وهو الأمر نفسه الذى يحدث فى الكنائس، حيث يردد المصلون كلمة «آمين»، مثلهم فى ذلك مثل المسلمين المصريين. فالمصرى يرى أن جوهر الأديان واحد، أو قل هو يتعامل هكذا، وأن الدين جزء من الحياة، وأن وظيفته الكبرى هى الارتقاء بمعنى الحياة، وأمام الرؤية الوظيفية للدين، ظل الشعب المصرى موصوفاً دائماً بأنه «شعب متدين»، ولم يتوقف أحد ليسأل نفسه: ما معنى الدين عند المصريين؟