(1)
أنْ تجلس مع الأستاذ عادل إمام.. فأنت تجلس مع «التاريخ السياسى والاجتماعى» المعاصر.. مع الفنّ والسياسة.. الضحكة والفكرة.. النخبة والجماهير.
إن الأستاذ عادل إمام ليس فناناً واحداً.. لكنّه منظومة كبرى من الفنون. إنّه حشدٌ هائلٌ من الشخصيات.. ومزاجٌ بالغ الثراء.. صمتاً وصخباً.. هدوءاً وإعصاراً.. تارةً قهقهاتٍ صاخبة تملأ العالم أملاً وبهجة.. وتارةً رصاصة فى عيونٍ وقحة.
(2)
تشرّفت بمعرفة الأستاذ عادل إمام عبْر الدكتور أحمد زويل.. كانت تلك الأحاديث التى جمعتنى بالعالم والفنان رائعة بلا حدود.. إنّها واحدة من أجمل ما حضرتُ فى حياتى.. مزيجٌ رائعٌ من الفن والعلم.. وجِدالٌ رفيعٌ بين العقل والقلب. ولقد بقيتُ -دوماً- على تواصلى مع الفنان الكبير.
سعدتُ بزيارة الأستاذ عادل إمام عدة مرات فى منزله فى منتجع المنصورية الريفى غرب حى المهندسين بالجيزة. ولطالما سعدت -معتزاً ومقدراً- بإعجاب الأستاذ عادل إمام ببرنامجى التليفزيونى، وثنائه الكريم على ما يقرأ من مقالاتى ومؤلفاتى.
كانت بعض الزيارات بصحبة الأستاذ يحيى البستانى.. وبعضها الآخر بصحبة الفنان شريف حلمى.. الذى باتَ واحداً من أبرز العارفين بتاريخ «الزعيم».. والجامعين لأرشيفه وتاريخه.
قبل أيام.. زُرتُ الأستاذ عادل إمام من جديد.. وكانت الزيارة أشبه بعنوان كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل «زيارة جديدة إلى التاريخ».
كان الأستاذ هيكل -بدوره- صديقاً للأستاذ عادل إمام.. وكان أول تعارف بينهما.. اتصالٌ من الأستاذ هيكل قال فيه: أستاذ عادل.. أنا محمد حسنين هيكل.. إذا كانت لك قائمة معجبين فأنا على رأس القائمة.. وردّ الأستاذ عادل: معقول.. الأستاذ هيكل مرة واحدة!
وهنا بدأت صداقة قوية بين «الزعيم» و«الأستاذ».
روَى لى الأستاذ عادل إمام جانباً من المسلسل الجديد 2018 «عوالم خفية».. ثم قال لى: إننى أحب السينما، لكن لا شىء أجمل من المسرح.. أن ترى البهجة حاضرةً وشاخصةً أمام ناظريْك.. أن ترى استقبال الجمهور على الهواء دونما انتظار.. الأمر يشبه تغطيات محطات التليفزيون الإخبارية.. كأنك تفتح نافذةً على الشاشة مكتوبٌ عليها «الضحكة مباشر» أو «الابتسامة الآن».
قصص لا نهاية لها فى مسرح عادل إمام. فى أحد العروض كاد الضحك أن يُنهى حياة أحد المتفرّجين فى الشرفة العليا.. حيث هتف، من غير اتزان: عدّول.. عدّول. ثم سقط على الأرض!
وملكة عربية جاءت لتحضر مسرحية «الزعيم».. فطلبت الرئاسة إفراغ المسرح.. فرفض «الزعيم».. لأن الإبداع لا يكتمل من دون جمهور.. فجاء القرار.. بدعوة زوجات المسئولين إلى الحضور.. ليصبح أول عرض مسرحى.. للنساء فقط!
(3)
نجح الأستاذ عادل إمام فى أن يمثّل مشروعه الفنى موجز ما جرى فى مصر.. اليسار واليمين.. الحرب والانفتاح.. الدين والسياسة.
ثم إنه مضى بمشروعه خارج الحدود.. ليصبح أسطورة حيّة فى كلّ العالم العربى من المحيط إلى الخليج.. وأتذكر زيارة لى إلى جنوب السودان مع وزير الخارجية سامح شكرى.. وكان الموقف متأزماً للغاية ونصف حربٍ أهلية تدور رحاها عند مرمى النظر.. وقال لى أحدهم: لديكم فى مصر الحلّ لمشكلتنا.. إذا جاء عادل إمام إلى هنا.. سيأتى الجنوبيون من كل الأطراف.. وستكون مليونية الفن والسلام.
زار الأستاذ عادل إمام المملكة المغربية أكثر من مرة.. وحظيت زيارته باستقبال لا مثيل له.. التقى الملك الحسن الثانى، ثم التقى الملك محمد السادس.. واحتشد الملايين لتحيته من الرباط إلى مراكش.
وفى زيارته إلى تونس.. شاهد الكثيرون الرئيس قائد السبسى وهو يقلد الفنان عادل إمام فى مشهد بروتوكولى نادر لرئيس يقلد فناناً.. وحين زار لبنان والتقى الرئيس إميل لحود.. لم يجد عناءً -وهو يتسلّم وسام الأرز- فى أن يدرك أن شعبيته تفوق شعبية كل الطوائف اللبنانية مجتمعةً.
قال لى الأستاذ عادل إمام: حين زرتُ اليمن.. التقيتُ الرئيس على عبدالله صالح فى قصر الرئاسة فى صنعاء.. وبعد أن صافحنى قال لى: الشعب اليمنى كله يحبك.. إن شعبيتك هنا كبيرة. قلت له ضاحكاً: لو أنا قررت أن أترشح للرئاسة هنا سآخذ أصواتاً أكثر منك. وفوجئت بأنه لم يضحك.. وأسرّها فى نفسه.. ولحُسن الحظ فإن ضحكات أبناء الرئيس أنقذت الموقف.
(4)
لا يحتاج من يجلس مع الفنان عادل إمام إلى جهد كبير حتى يدرك أنه يمتلك عقليّة ثلاثية الأبعاد.. يوازن بين الكلّ والتفاصيل.. ويدرك ما لا يظهر بوضوح.. إنه يبدو فى أحيانٍ كثيرة مثل شخصٍ دخل محلاً لبيع المرايا.. فقام بتحطيم كلّ المرايا المقعرة والمحدبة.. لينهى حالة التشويش البصرى.. فلا شىء أكبر ولا شىء أصغر من الواقع.. كل المرايا طبيعية.. وكل الأشياء بأحجامها الحقيقية.
بفضل هذه الرؤية ثلاثية الأبعاد.. وعبْر «استراتيجية تحطيم المرايا الكاذبة».. استطاع الفنان الكبير أن يتجاوز حاجز الزمان ليعبر عن أجيال متتالية، كما استطاع أن يتجاوز حاجز المكان ليعبر عن أكثر من عشرين دولة عربية.
فى كل العقود الفائتة.. سحقت فلسفة «ما بعد الحداثة».. الكثير من «الحداثة».. طغت السيولة وغطّى اللاثبات على معظم المشهد.. لم يبقَ صامداً بين طوفان التفكيك والتكسير.. إلا القليل.
وهنا الإنجاز الأكبر للزعيم.. لقد انتصرت العولمة على كل شىء.. لكن عادل إمام انتصر على العولمة.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر..