صراع بين الكبار.. وعوام المسلمين غائبون
صعد النبى (صلى الله عليه وسلم) إلى الرفيق الأعلى والمشهد على نحو ما شرحنا فيما سبق؛ طرح لفكرة الوصية، واختلاف على مضمونها ومحتواها، وهل هى وصية عهد بالحكم إلى شخص بعينه؟ أم مجموعة من التوجيهات والتعاليم التى تحمى المسلمين من الوقوع فى براثن الفتنة؟ وصراع ما بين بنى عبدالمطلب وأبناء البطون الأخرى من قريش، بالإضافة إلى الصراع ما بين الأوس والخزرج داخل جماعة الأنصار. والشاهد فى كل هذه الأحداث أن الصراع كان بين الكبار، وكان المسلمون العاديون غائبين تماماً عن المشهد، لكن يبقى أن القلق كان ينتاب الجميع من طبيعة المشهد الذى يمكن أن يتشكل بعد وفاة النبى، فى ظل الإحساس بهذا التنازع الحاصل على الحكم، وهو ما عكسته الأحداث التى أعقبت وفاة محمد (صلى الله عليه وسلم).
وتبدأ أحداث ما بعد وفاة النبى بمشهد مثير يحكيه «اليعقوبى» فى تاريخه قائلاً: «خرج عمر فقال: والله ما مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا يموت، وإنما تغيَّب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة ثم يعود، والله ليقطعن أيدى قوم وأرجلهم. وقال أبوبكر: بل قد نعاه الله إلينا فقال: إنك ميِّت، وإنهم ميِّتون. فقال عمر: والله لكأنى ما قرأتها قط، ثم قال: لعمرى لقد أيقنت إنك ميِّت، ولكنما أبدى الذى قلته الجزع».
ويبدو هذا المشهد عجيباً أشد العجب إذا استدعينا من الذاكرة ذلك المشهد الآخر الذى عكس موقف عمر بن الخطاب رضى الله عنه من موضوع الكتاب الذى أراد النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يمليه فرفض عمر ذلك وقال إن الوجع اشتد بالنبى، وإنه يهجر، أى دخل فى مرحلة هذيان الموت. فكيف نقبل أن يكون موقف عمر على هذا النحو الرافض والمصادر على فكرة وفاة النبى وهو الذى أكد قبل ساعات أن النبى «يحتضر»؟! المؤكد أن هذه الرواية تعكس اجتهاداً من جانب كتَّاب السيرة فى نفى القصة التى تذهب إلى أن عمر بن الخطاب هو من حال بين النبى وكتابة وصية العهد، وأنه لم يكن الشخص الذى فعل ذلك بدليل هذه الثورة التى انتابته عندما سمع أناساً يقولون إن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قد مات. لذلك أجدنى لا أستطيع قبول هذه الرواية التى تحاول بشكل متهافت أن تنفى عن عمر بن الخطاب الحيلولة دون وصية النبى من ناحية، وتجتهد من ناحية أخرى فى إثبات دور أبى بكر الصديق (رضى الله عنه) فى حسم أول خلاف يقع بين المسلمين بعد لحظات من وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) لتصب فى خانة التنظير لأحقيته وأهليته لخلافة النبى (صلى الله عليه وسلم).
يأتى بعد ذلك المشهد الأهم والأخطر فى تاريخ الصراع على الحكم بين المسلمين والمتعلق باجتماع «سقيفة بنى ساعدة». ويشير ابن سعد -فى الطبقات الكبرى- إلى هذه الواقعة قائلاً: «أخبرنا محمد بن عمر قال حدثنى معمر ومحمد بن عبدالله عن الزهرى عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة عن بن عباس عن عمر بن الخطاب أن الأنصار حين توفى الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) اجتمعوا فى سقيفة بنى ساعدة ومعهم سعد بن عبادة، فتشاوروا فى البيعة له، وبلغ الخبر أبا بكر وعمر (رضى الله تعالى عنهما)، فخرجا حتى أتياهم ومعهما ناس من المهاجرين، فجرى بينهم وبين الأنصار كلام ومحاورة فى بيعة سعد بن عبادة، فقام خطيب الأنصار فقال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب: منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط وارتفعت الأصوات فقال عمر: فقلت لأبى بكر ابسط يدك فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار».
نخلص من هذه الرواية إلى عدة أمور: أولها أن القلق كان يستبد بقلوب الأنصار من وضعهم داخل الدولة بعد وفاة النبى، لذلك فقد بادروا إلى الاجتماع ومبايعة «سعد بن عبادة». فمؤكد أن الاجتماع الذى يأتى بمجرد وفاة النبى سبقته ترتيبات واتفاقات معينة، وثانيها: أن الأنصار لم يريدوا الاستئثار بالأمر لأنفسهم بل كانوا يبحثون عن «المشاركة»، فى حين أراد المهاجرون «المغالبة» ورفضوا فكرة مشاركة الأنصار فى الحكم بأى شكل من الأشكال، وثالثها: أن الأحداث التى شهدتها «السقيفة» تشير إلى أن الصراع كان يتراوح بين التفاوض الساعى إلى تقريب وجهات النظر، والتفاوض المتشدد الذى يحمل التهديد من أجل غلبة الطرف الآخر على أمره.