صيادو «المكس» بالإسكندرية يرفضون تهجيرهم من العشش: «على جثتنا»
صيادون خلال عملهم اليومى
على أنغام إحدى أغنيات كوكب الشرق أم كلثوم، يصدرها راديو جيب وضعه بجواره، جلس «عم محمد» أمام قارب الصيد الخاص به، عند الخندق المؤدى إلى البحر غرب الإسكندرية، ممسكاً بالإبرة والغزل المتهالك، محاولاً إصلاحه، على أمل اللحاق برحلة الصيد الأخيرة، قبل أن يستيقظ فى يوم ما، ليفاجأ باختفاء وتغيير ملامح كل ما نشأ عليه منذ نعومة أظافره، تنفيذاً لقرار بإزالة واحدة من أقدم المناطق التى سكنها الصيادون بالإسكندرية، وهى منطقة «المكس»، أو ما تُعرف بـ«فينيسيا الشرق». وبينما كان الرجل، الذى قارب على الـ70 من عمره، منهمكاً فى عمله، قطع أحد جيرانه من الصيادين السكون قائلاً: «سمعت أن الإزالة كمان كام يوم.. هنعمل إيه؟.. هنسيب بيوتنا وأكل عيشنا يتخربوا قدام عنينا؟»، ليبادره «حمادة الوز»، أحد أقدم صيادى «المكس»، بإجابة قاطعة قائلاً: «على جثثنا». وتُعد البيوت والأكواخ التى أقامها الصيادون فى «المكس»، إحدى أقدم المساكن فى «عروس البحر المتوسط»، التى مر على بنائها ما يزيد على 100 عام، ورغم بنائها بشكل عشوائى، فإنها تشبه فى شكلها العام منطقة «فينيسيا» الشهيرة بإيطاليا، حيث المنازل المطلة على المياه بشكل مباشر، ويستخدم أهلها مراكب الصيد الخاصة بهم فى التنقل بين شوارعها.
الأهالى: الشقق البديلة سجون انفرادية غير آدمية.. والحى: بيوتكم خطر على حياتكم والنقل فى مصلحتكم.. وسيتم إزالة المنازل المهددة بالانهيار
ويعمل غالبية سكان المكس بمهنة الصيد، فمع النسمات الأولى التى تعلن عن بزوغ يوم جديد، يكون الجميع فى مراكبهم مستعدين للانطلاق، ثم يعودون قبل شروق الشمس، ليعاودوا الكرة مرة أخرى قبل الغروب، حيث أوقات الذروة التى توجد فيها الأسماك بكثرة.
وعلى بعد خطوات من بيوتهم القديمة، توجد مساكن جديدة تم بناؤها لنقل صيادى «المكس» إليها، عوضاً عن مساكنهم التى قررت المحافظة إزالتها، ورغم أن الأبنية تبدو منظمة بعض الشىء، فإنها تشبه «السجون»، بحسب وصف عدد من الصيادين، حيث إن مساحة الوحدة لا تتجاوز 48 متراً مربعاً، بينما تتكون معظم أسرهم من أكثر من 5 أفراد، وفى بعض الأحيان قد توجد أسرتان تعيشان معاً فى شقة واحدة.
وكان محافظ الإسكندرية قد أصدر قراراً بإزالة مساكن «المكس»، بعد تصنيفها عام 2015 باعتبارها من أكثر المناطق التى تمثل خطورة داهمة على القاطنين بها، وأمر ببناء مساكن بديلة للأهالى، وكذلك إنشاء ميناء لمراكب الصيد الخاصة بهم، وهو القرار الذى أثار استياءً بين الصيادين، الذين أعربوا عن رفضهم مغادرة بيوتهم التى أمضوا فيها سنوات عمرهم.
وقال «محمد عاطف»، صياد، إن «أول حل فكرت فيه الحكومة هو المنازل وتشريد الصيادين، دون النظر فى ترميم المنازل، وهدم المخالف منها فقط، وتطوير المنطقة، التى تعد أحد أهم المصادر الرئيسية للأسماك بالإسكندرية»، وأضاف أن «منطقة المكس معروفة للجميع ومشهورة خارج مصر، بأنها تشبه جداً منطقة فينيسيا فى إيطاليا»، وتابع بقوله: «رغم الشبه الكبير الذى يمكن استغلاله سياحياً، قررت الحكومة أن تهدمه، ما يؤدى إلى تشريد مئات الصيادين».
واستطرد قائلاً: «منطقة المكس كانت غنية بالأسماك، وعندما كنا صغاراً، كانت أمى بتقول لى انزل هاتلنا سمك من قدام البيت، كنت أحط الشبك وأطلع سمك نتغدى بيه، وكل يوم على كدة»، وفجأة وقف الرجل على قدميه، ليشير بأصبعه إلى المسطح المائى أمام منزله، وقال: «المياه الصفرا دى اللى فيها بعض البقع السودا، كانت زمان صافية، تشوف فيها السمك، وخصوصاً القراميط والكابوريا والسردين، دلوقتى كويس لو طلعت عايش منها».
وأشار بإصبعه إلى المساكن الجديدة، التى تقع فى مرمى البصر، قائلاً: «المساكن اللى هناك دى غير آدمية، أو بالأصح سجون انفرادية ضيقة جداً، مينفعش يعيش فيها شخص لوحده، إزاى هيعيش فيها 1000 أسرة أو أكتر؟»، مشيراً إلى أن مساحة الوحدة 48 متراً فقط، بينما يعيش فى المنزل الواحد أكثر من 7 أفراد، وأضاف أن «المشكلة لا تكمن فقط فى صغر المساحة ونقل المنزل، بل فى كون الصيادين يعتمدون أساساً فى مهنتهم على قرب المراكب من منازلهم ومخازنهم، وبعد النقل سيكون من الصعب على الصياد تغيير الغزل فى وقت قصير، وسيصعب للغاية عمليات الصيد، لبعد المراكب عن الصيادين».
أما «حمادة الوز»، أحد صيادى منطقة المكس فقال: «هدم المنازل سيكون على جثث جميع الصيادين، احنا اتربينا هنا وعاملين زى السمك، منقدرش نطلع متر واحد بره المكان ده»، وتابع أن الأماكن البديلة، بالإضافة إلى أنها غير آدمية، لم يتم توفير ميناء لمراكب الصيادين بها، وأضاف أن صيادى المكس ليسوا ضد تطوير المنطقة، بل على العكس، تم تقديم طلب إلى المحافظة والحى، بإزالة جميع المخالفين بالمنطقة، وبمساعدة المحافظة على زيادة عمق وتطهير المجرى، مشدداً على أن جميع تلك الأشياء فى مصلحة الصيادين وليس ضدها. وكانت محافظة الإسكندرية قد أعلنت عن خطة لإزالة منازل المكس، من أجل زيادة عمق المجرى المائى وتطهير المياه، حتى يستوعب أكبر قدر من المياه المتدفقة من طلمبات المكس، التى تساعد فى تخفيف غرق محافظات غرب الدلتا خلال شهور الشتاء، وقال مصدر مسئول بجهاز شئون البيئة فرع الإسكندرية، طلب عدم ذكر اسمه، إن منطقة المكس تعد إحدى المناطق المهددة لحياة القاطنين فيها، حيث يجرى تصنيفها على أنها «منطقة خطر من الدرجة الثانية»، نتيجة تلوث المياه الشديد أمام المنازل، وأضاف أن سبب التلوث يعود إلى وجود أكثر من مصب من شركات البترول والشركات المحيطة بالمنطقة على المجرى المائى.
ومن جانبه، قال علاء يوسف، رئيس حى العجمى غرب الإسكندرية، إن منطقة المكس تعد من أكثر المناطق خطورة على حياة القاطنين فيها، وأن نقل الصيادين من أماكنهم يصب فى مصلحتهم من الدرجة الأولى، مؤكداً أنه سيتم تعويض الصيادين بمساكن أخرى بديلة، قريبة جداً من مساكنهم القديمة، كما تم بناء ميناء خاص بمراكبهم، حتى لا تتأثر أعمالهم، وأشار إلى أنه سيتم إزالة جميع المنازل المهددة بالانهيار، كونها مبنية بشكل عشوائى، كما سيتم زيادة عمق المجرى المائى أمام تلك المنازل، حتى يستوعب كميات أكبر من مياه الأمطار والسيول التى تتعرض لها محافظات غرب الدلتا، وأوضح أنه سيتم أيضاً تطهير المجرى المائى من التلوث، من خلال إغلاق جميع مصادر التلوث والمصبات المفتوحة من قبل الشركات.