الجيش والشعب.. تاريخ من الكفاح ضد «المستبد»
«من الشعب وإلى الشعب»، هكذا كان حال الجيش المصرى منذ وضع لبنته الأولى محمد على باشا، مؤسس الأسرة العلوية فى مصر. كانت فكرة تكوين جيش مصرى وطنى قد طرأت على ذهن الباشا المقدونى فى أوائل القرن التاسع عشر، عقب مرور بضع سنوات على اعتلائه سدة الحكم فى مصر. فى البداية استبعد محمد على الجنود الأتراك والألبان، نظراً لما كان معروفاً عنهم من الميل للتمرد وإحداث الشغب، وهو ما حدث بالفعل حينما قرر تدريب عدد منهم، فثاروا عليه وهاجموا قصره، وكادوا يقتلونه هو شخصياً. كما استبعد «الباشا» فكرة تشكيل الجيش من السودانيين بعد أن فشلوا فى التأقلم مع جو مصر، وأخيراً وجد نفسه فى مواجهة مع المصريين الذين لم يكن يثق كثيراً فى قدراتهم الحربية، غير أنهم أخلفوا ظنونه، حينما انخرطوا فى سلك الجندية، مشكلين النواة الأولى لأول جيش مصرى فى التاريخ الحديث.[FirstQuote]
من الشعب المصرى تم تكوين الجيش المصرى بعد أن فرض محمد على باشا تجنيداً إجبارياً على الذكور من أبناء البلد، فتح «الباشا» المدارس الحربية، واستقدم خبراء أجانب لتدريب قوات الجيش، ثم شارك بهم فى معارك قتالية خارج مصر، لتوطيد دعائم سلطة السلطان العثمانى، قبل أن يستخدم الجيش فى مواجهة السلطان نفسه فيما بعد، وينتهى الأمر بعقوبة دولية توقع على مصر وحاكمها وجيشها، وذلك بتخفيض عدد الجنود المصريين إلى 18 ألف جندى كإحدى أهم نتائج مؤتمر لندن الذى عقد فى عام 1840.
كان تكوين الجيش المصرى من أبناء الشعب سبباً رئيسياً فى ارتباط الجيش بأبناء الشعب والعكس، تجلى ذلك بوضوح مع المشكلات التى تعرضت لها مصر أواخر حكم الخديو إسماعيل، وخاصة بعد أن بلغ التدخل الخارجى فى شئون مصر حده الأقصى، نتيجة الديون الطائلة التى أغرق فيها الخديو البلاد، وأصبح من الطبيعى أن تنشأ حركة وطنية مصرية خالصة هدفها الحد من ذلك التدخل، تولى زعامتها عدد من المثقفين المصريين بالإضافة إلى عدد من ضباط وجنود الجيش المصرى، قادهم جميعاً المفكر الإسلامى الشهير جمال الدين الأفغانى.
أحمد عرابى وعلى فهمى وعبدالعال حلمى.. ثلاثة ضباط مصريين ينتمون للجيش المصرى، لمعت أسماؤهم وسط صفوف الحركة الوطنية أواخر حكم «إسماعيل»، تولى الضباط الثلاثة المطالبة بإصلاحات سياسية واجتماعية فى البلاد. رضخ الخديو لمطالبات ضباطه الملتحمين بالشعب، غير أن الخديو نفسه لم يستطِع أن يستمر فى حكم البلاد، إذ دفع به التدخل الأجنبى إلى حد عزله عن منصبه وتولية ابنه «توفيق» الحكم خلفاً له.
مع الخديو توفيق اختلف الأمر، كان الأخير لا يعترف بأى حقوق للمصريين، أو كما كان التاريخ يحفظ مقولته الشهيرة: «ما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»، وكان رد «عرابى» الذى يحفظه التاريخ أيضاً: «لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً ولن نُستعبد بعد اليوم». هكذا بدت المواجهة سافرة بين ضابط الجيش وحاكم البلاد، ولأن الشعب بأكمله كان خلف الضابط، فإن الخديو كان عليه أن يبحث عن قوة تقف خلفه، ولم يكن هناك فى نظره أفضل من القوات البريطانية التى عرضت حمايته بدعوى الحفاظ على الشرعية ورعاياها ومصالحها فى البلاد.
وقعت الواقعة، وانكسر «عرابى» وجيشه وشعبه فى مواجهة الخديو والقوات البريطانية التى احتلت البلاد. انقسم الشعب المصرى كالعادة إلى قسمين، أولهما كان يرى أن «عرابى» تعرض لخديعة من الخديو الذى غدر به، بالتالى حمَّلوا الأخير كامل المسئولية عما آلت إليه أحوال البلاد ورفعوا شعار «يا توفيق يا وش النملة.. مين قالك تعمل دى العملة»، فى حين كانت وجهة نظر القسم الثانى تتلخص فى أن «عرابى» هو المتسبب فى احتلال بريطانيا لمصر، وبالتالى لم يسلم من انتقاداتهم رغم نفيه خارج البلاد، فراحوا يتهكمون عليه وعلى الثورة التى قام بها، رافضين الاعتراف بكونها ثورة، خاصة بعد أن أطلقوا عليها «هوجة عرابى».
راح «عرابى» وصحبه، كما خفتت تماماً سيرة الجيش المصرى باعتباره جيشاً مهزوماً فى مواجهة الجيش البريطانى الذى احتل البلاد، ولم تقُم للجيش المصرى قائمة فيما تلا ذلك من سنوات. غير أن سيرته عادت بقوة مع توقيع مصر لمعاهدة عام 1936 مع بريطانيا التى انسحبت القوات البريطانية بمقتضاها إلى منطقة القنال، وسمحت للحكومة المصرية بزيادة عدد الجيش المصرى، وبمقتضى تلك الاتفاقية فتح الجيش المصرى أبوابه لاستقبال أعدد كبيرة من شباب الوطن، ليلتحق فى صفوفه بضع عشرات من الشباب من أبناء الطبقة الوسطى وصغار الموظفين، أولئك الذى تخرجوا فى الكلية الحربية فى بداية الأربعينات من القرن الماضى، ثم اشتركوا فى حرب فلسطين عام 1948، وعادوا منها بهزيمة مريرة دفعتهم لأن ينخرطوا فى تنظيم سرى داخل الجيش أنشأه واحد منهم يدعى جمال عبدالناصر، ومنحه اسم تنظيم الضباط الأحرار.
كان هدف التنظيم السرى هو الثأر من الحكام الخونة الذين تسببوا فى هزيمة الجيش فى حرب فلسطين، ذلك الثأر الذى تمثل فى إزاحة الملك فاروق عن حكم البلاد صباح يوم 26 يوليو عام 1952، بعد ثلاثة أيام مرت على انقلاب أبيض قام به التنظيم فجر يوم 23 يوليو من نفس العام، وانتهى الانقلاب برحيل الملك فاروق، وإسناد مسئولية الحكم إلى ابنه أحمد فؤاد، الذى لم يكن عمره يزيد وقت قيام الثورة على ستة أشهر.
استقبلت الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصرى حركة الجيش بابتهاج شديد، فمن ناحية كانت رائحة فساد الملك السابق وحكوماته تزكم الأنوف، ومن ناحية أخرى كان منظر الجنود المصريين وضباطهم الشباب من أعضاء مجلس قيادة الثورة يبعث الأمل فى نفوس المصريين بمستقبل واعد، وهو ما تحقق بالفعل من القرارات التى اتخذها المجلس فى أيامه الأولى من القضاء على الإقطاع، وتوزيع الأراضى على الفلاحين، ثم تجلى بشدة بعد ذلك من توقيع اتفاقية الجلاء وإنهاء سبعين عاماً من احتلال بريطانيا لمصر بـ«جرة قلم»، ومع تولى جمال عبدالناصر، أحد الضباط الأحرار، مسئولية الحكم فى مصر بانتخابه رئيساً للجمهورية راحت قراراته المتوالية تصب فى مصلحة جموع الناس فى مصر، من تأميم قناة السويس وممتلكات أصحاب الأموال والمصانع والشركات، وبناء القلاع الصناعية، وخلق طبقات جديدة فى المجتمع لم تكن موجودة قبل الثورة، وتوزيع الثروات على أبناء البلاد، وهو ما عزز التحام الشعب بقوات الجيش، التى عملت على رخائه ورعاية مصالحه.
على أن العلاقة بين الشعب والجيش تعرضت لنكسة شديدة فى أعقاب النكسة التى أصابت البلاد يوم 5 يونيو عام 1967، والتى انتهت باحتلال إسرائيل لسيناء وهزيمة الجيش المصرى شر هزيمة، إذ حمَّل الشعب مسئولية الهزيمة لقواته المسلحة بقياداتها وجنودها، ورغم أن منظر الجنود العائدين من سيناء سيراً على أقدامهم كان مهيناً وكئيباً للغاية، فإن المصريين أنفسهم رغبة فى التشفى من الجيش الذى حمَّلوه مسئولية الهزيمة راحوا يطلقون النكات التى تسخر من الجيش وقيادته، وهو ما دفع «عبدالناصر» فى خطاب عام لأن يطلب من الشعب الكفَّ عن إطلاق النكات، حتى لا يفت ذلك فى عضد الجيش، صمت المصريون، وراح الجيش يضمد جراحه، ونجح بالفعل فى الثأر لهزيمته يوم 6 أكتوبر عام 1973 فى واحدة من أروع معاركه طوال تاريخه، فنجح فى عبور قناة السويس للضفة الأخرى واستولى على خط بارليف المنيع الذى كانت إسرائيل تزهو بقوته، وعاد مرة أخرى لأحضان الشعب.[SecondQuote]
«دولا مين ودولا مين.. دولا عساكر مصريين» هكذا راجت فى ذلك الوقت أغنية شهيرة تمجد أولئك الجنود الذين ضحوا بحياتهم من أجل أن تعيش أمتهم سعيدة، راجت كذلك عشرات الأغانى التى تتغزل فى الجيش المصرى، وهو ما ساهم فى رفع شعبية الجيش لدى الشعب، تلك الشعبية التى دفعت الرئيس الراحل أنور السادات أن يستعين بالجيش للسيطرة على البلاد فى أعقاب انتفاضة الخبز التى وقعت يومى 18 و19 يناير عام 1977، والتى اندلعت اعتراضاً على رفع الحكومة لأسعار بعض السلع الأساسية، وصاحبتها عمليات نهب وسرقة أدت إلى أن يطلق «السادات» عليها «انتفاضة الحرامية». استعان «السادات» بالجيش، وكان وجوده فى الشوارع كافياً لأن يعود الناس إلى منازلهم بعد أن ظلوا فى الشارع طوال يومين كاملين.
«القوات المسلحة حريصة على أمنكم وسلامتكم ولن تلجأ لاستخدام القوة ضد هذا الشعب العظيم». كان ذلك نص الرسالة التى أرسلتها القوات المسلحة لعدد كبير من أبناء الشعب فى أعقاب نزولها للشارع أثناء ثورة 25 يناير عام 2011، الأمر الذى بث الطمأنينة فى نفوس المواطنين ودفعهم للمرابطة فى ميدان التحرير حتى تنحى «مبارك»، راج وقتها الشعار الشهير «الجيش والشعب إيد واحدة»، ثم تحول إلى «يسقط حكم العسكر» فى أعقاب سلسلة طويلة من الأخطاء تورط فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، قبل أن يترك «المجلس» الحكم ويسلم السلطة للرئيس المدنى المنتخب.
أخبار متعلقة:
الجيش مع مين؟
«سياسيون»: الخطاب يؤكد انحياز الجيش للشعب
مواطنون يردون على كلمة «السيسى»: «أنت فارس الفرصة الأخيرة.. والتدخل في الوقت الصحيح»
خبراء: رسائل الخطاب موجهة لـ«مرسى»
«الوطن» تكشف كواليس خطاب وزير الدفاع ولقاء «مرسى»
«خبراء» يطرحون سيناريوهات تدخل الجيش: التدخل لمنع الصدام.. الحكم لمرحلة انتقالية.. والتوافق مع القوى السياسية على مجلس رئاسى
«تمرد»: خطاب «السيسى» إيجابى.. والجيش وجّه رسالة تهديد لـ«الإرهابيين»
التيار المدنى بـ«الشورى» يطالب بالتحفظ على شيوخ «الإرهاب والفتنة»
«6 أبريل»: الشعب قرر سحب الثقة من «مرسى» ونرفض تدخل الجيش
«الإنقاذ» تطلب الإصلاح أولاً.. و«الإخوان» jرفضون الانتخابات الرئاسية المبكرة
منسق «الوطنية للتغيير» لـ«الوطن»: لن نقبل بالحوار مع نظام «مرسى» الخائن
كواليس اجتماع «الإنقاذ»: «العصار» يدعوها لقبول الحوار مع «مرسى».. و«الجبهة» تشترط إعلان نيته تقديم استقالته
الخطابات: 20 دقيقة من «السيسى» بألف من «مرسى»
صحف عالمية: بيان «السيسى» تحذير «أخير» لأنصار «مرسى» بأن الجيش جاهز للتدخل