عسكرة المناصب السياسية: كيف ولماذا؟

عسكرة المناصب السياسية: كيف ولماذا؟
النفوذ العسكري في المجال السياسي ليس مسألة قاصرة على المجتمعات التسلطية، ولكنها ظاهرة من الشيوع لدرجة أن الدراسات المتخصصة التي اهتمت بهذه القضية في المجتمعات الديمقراطية تفوق نظيرتها في المجتمعات التسلطية. وتكون القضية أكثر إلحاحا في حالة الدول التي تتحول ديمقراطيا من حكم العسكر إلى الحكم المدني.
وهو ما يقتضي بالضرورة أن نفرق بين نوعين من النظم السياسية في العالم: نظم تسلطية ونظم ديمقراطية. بل إن الكثير من الباحثين اعتبروا "السيطرة المدنية" (Civilian Supremacy) بمعنى الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية شرطا من شروط تحول الدول من التسلط إلى الحكم الديمقراطي وهو ما جعل روبرت دال، كأحد أهم منظري الديمقراطية، يعتبر أن مجرد وجود انتخابات حرة ونزيهة ودورية في دولة ما، ليس دليلا على رسوخ ديمقراطيتها، وإنما المعيار الأسمى هو "ألا توجد جهة أو مؤسسة غير منتخبة تمارس حق الرقابة والنقض على قرارات مؤسسة منتخبة." وهو يقصد بذلك تحديدا ألا توجد مؤسسة أعلى من المؤسسات المدنية المنتخبة سواء كانت تلك المؤسسات دينية (مثلما هو الحال بالنسبة للمرشد الأعلى في إيران) أو عسكرية (مثلما هو الحال في باكستان). لذا كان النظر إلى ظاهرة "عسكرة" مؤسسات الدولة كخطر ضخم على رسوخ الديمقراطية واستدامتها.
وأنماط العسكرة "militaralizaion" في العالم ثلاثية: فهناك العسكرة الصريحة بأساليب غير ديمقراطية من خلال أن يكون على قمة الجهاز السياسي في الدولة رئيس له خلفية عسكرية عبر انقلاب إما دموي أو سلمي (انقلاب قصر). وهناك العسكرة من خلال انتخابات ديمقراطية يتنافس فيها أشخاص لهم خلفية عسكرية في مواجهة مدنيين على المناصب السياسية العليا في الدولة مثل رئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء أو المحافظين. وهناك ثالثا نمط "عسكرة" المناصب الوسطى في الهيكل الإداري والتنفيذي للدولة بغض النظر عن الخلفية المدنية والعسكرية لمن هم في قمة هرم السلطة.
ماذا عن الدول الديمقراطية؟
شهد الدول الديمقراطية بدرجات متفاوتة النمطين الثاني والثالث من عسكرة المناصب السياسية والإدارية وبالذات في فترات الأزمات والحروب والتهديد المباشر لاستقرار الدولة سواء بقرار من صانع القرار السياسي الذي يريد أن يضمن سيطرة المركز على كامل الإقليم ومواجهة التحديات المختلفة. ومن هنا لم يكن مستغربا مثلا أن "الحرب على الإرهاب" في الولايات المتحدة وفي أوروبا الغربية أنتجت نمطا من "عسكرة الحياة المدنية" عبر سلسلة من القوانين والإجراءات التي رفعت من درجة استعانة الدولة بقيادات عسكرية حالية وسابقة لتأمين المجتمع. بل يلاحظ الباحثون أن الحروب الناجحة عادة ما تترجم نفسها في ميل المجتمع نفسه لمكافأة القيادات العسكرية التي شاركت في الحرب من خلال انتخابهم في مواقع تشريعية وتنفيذية ففي أعقاب انتخابات الولايات في عام 1992 في الولايات المتحدة ارتفعت نسبة العسكريين الذين يشغلون منصب حاكم ولاية من حوالي الربع إلى أكثر من الثلث فضلا عن تعيين العديد من الجنرالات السابقين في مناصب تنفيذية وإدارية متنوعة. [Quote_1]
ولا توجد دولة ديمقراطية في العالم لم تشهد في القرن الماضي رجلا عسكريا في واحد من أهم مناصبها التنفيذية (سواء رئيسا أو رئيسا للوزراء) في الدولة لفترة ما. ولكن دخول العسكر إلى ساحة العمل السياسي في الدول الديمقراطية له ثلاثة شروط: أولا، هو دخول من الباب الشرعي لتولي المناصب وهو الانتخابات الحرة النزيهة أو التعيين من قبل صاحب السلطة الشرعية في البلاد. ثانيا، يكون الخروج من المنصب التنفيذي عبر نفس الآلية الشرعية إما بفقدان الثقة من البرلمان، أو الاستقالة أو الإقالة أو خسارة الانتخابات. ثالثا، هو دخول فردي وليس تعبيرا عن مؤسسة. فانتخاب أيزنهاور في الولايات المتحدة وتشارل ديجول في فرنسا أو إسحاق رابين في إسرائيل لم يكن بتزكية من المؤسسة العسكرية أو بتهديد من القائمين عليها وإنما "الجنرال" هو مواطن له نفس الفرص نظريا مثل غيره من المواطنين.
بيد أن "السيطرة المدنية" في النظم الديمقراطية لا تضمن انحسار التأثير العسكري على الحياة السياسية لاسيما من مدخلي "الاقتصاد والتمويل" فعسكرة الأنشطة الاقتصادية يعد واحدا من أهم أدوات تغلغل العسكريين في النشاط المدني والسياسي بما قد يخدم الصالح العام أحيانا (مثلما كان عليه الحال في دول مثل البرازيل وكوريا الجنوبية)، أو بما يخدم مصالح العسكريين وجماعات الضغط المرتبطة بهم على النحو الذي حذر منه الرئيس الأمريكي أيزنهار في خطابه الأخير قبل أن يسلم السلطة إلى الرئيس الجديد "جون كيندى" في ظل ما أسماه بـ"المركب الصناعي – العسكري" قاصدا بذلك تلك العلاقة المركبة بين بعض السياسيين وبعض الصناعيين والرأسماليين الذين يميلون إلى زيادة الإنفاق الحربي من أجل تحقيق مصالح خاصة بالشركات المنتجة للأسلحة والسلع والخدمات المرتبط بها.
ماذا عن الدول التسلطية؟
ليلة هي الدول التي استقلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية ولم تشهد فترة من فترات الحكم العسكري وما ارتبط به من عسكرة لكافة المناصب العليا في البلاد، في ضوء أن هذه النخب العسكرية هي التي قادت حركات التحرر الوطني. دولتان مثل الهند في آسيا وبتسوانا في أفريقيا هما قطعا من الاستثناءات النادرة حيث ولدت هذه الدول ديمقراطية من أول يوم في استقلالها، ولم ينل العسكريون السلطة فيهما في أي مرحلة. [Quote_2]
وتشير تجارب "عسكرة" المناصب السياسية في دول الجنوب إلى أنها تفاوتت بشدة بين النجاح والفشل حيث شهدت دول الجنوب أنماطا عدة من نجاح النخب العسكرية في أن تتحول إلى دول تنموية ذات معدلات أداء اقتصادي عال رغما عن عدم ديمقراطيتها، وعلى رأس هؤلاء بامتياز كوريا الجنوبية تحت حكم الجنرال "بارك هي" في الستينيات، وهو ما أصطلح على تسميته بالدولة التنموية "Developmental State" في أدبيات الاقتصاد السياسي. بيد أن عسكرة المناصب السياسة في الدولة كان له وجه آخر، وهو الوجه الأكثر شيوعا في ما اصطلح بتسميته بالدولة السارقة أو الدولة النهابة "Predatory State" والمثال الكلاسيكي لها هو دولة زائير تحت حكم "موبوتو سيسي سيكو" (1965 - 1997) حيث تحولت مؤسسات الدولة المختلفة إلى ثكنة عسكرية تدين بالولاء للرئيس على نحو جعل من الدولة أداة لسرقة ونهب الموارد والمقومات الاقتصادية للمجتمع.
إدارة العلاقات المدنية – العسكرية في ظروف التحول الديمقراطي
بتكرت الدول الديمقراطية (وهي بالمناسبة حوالي 140 دولة من حوالي 200 دولة في العالم) صيغا متنوعة لضبط العلاقة بين "السياسي" و"العسكري" بما يضمن ويؤكد السيطرة المدنية على الشئون العسكرية. هذه السيطرة المدنية تقتضي التفرقة بين (الاستقلال المؤسسي) و(الاستقلال السياسي)، إذ أن الأول يتعلق بالاستقلال المهني للجيش بسبب طبيعة عمله المحترفة وهو ما يتأكد من خلال الحفاظ على تماسكه ووحدته العضوية وتسلحه وتدريبه، في حين أن الاستقلال السياسي يعني رفض الجيش أو مقاومته للرقابة المدنية ليصبح سلطة موازية أو أعلى من المؤسسات السياسية، ولذلك نجد أنه كلما تراكمت السلطات في يد المؤسسة العسكرية وتغولت مصالحها، تكون أكثر تمسكاً بمكاسبها ورفضاً للرقابة عليها مما قد يهدد بفشل التحول الديمقراطي.
بل إن الخطر يكمن في أن النظم التسلطية شهدت نمطا من رفض العسكر للرقابة المدنية على نحو يكون له تأثير سلبي على الفعالية العسكرية، حيث تلعب القوات المسلحة في هذه النظم دوراً مزدوجاً، فهي تقوم بدور المدافع عن الدولة وسيادتها ضد الأعداء الخارجيين من جهة، كما تقوم في الوقت نفسه بالدفاع عن النظام وحمايته من خصومه ومتحديه في الداخل بما يفضي إلى "تسييس المؤسسة العسكرية" بما يفضي إلى قدر كبير من النفوذ السياسي، وتصبح محاولة تغيير هذا النمط من العلاقات – كجزء أصيل من عملية التحول الديمقراطي - أصعب كلما زادت الامتيازات التي تمتعت بها المؤسسة العسكرية.
نماذج لتحجيم "عسكرة المناصب السياسية"
تعدا تجربتا البرازيل وأسبانيا من أفضل نماذج "تحجيم عسكرة المناصب السياسية"؛ فقد عرفت البرازيل دورة جديدة من دورات حكم العسكر في أعقاب انقلاب عام 1964، حيث تولي العسكريون الحكومة لمدة 21 عاما، وكان التوجه العام لهم في هذه الفترة ينحصر في شعار واحد وهو" الأمن والتنمية". ورغما عن الشعبية المعقولة للحكم العسكري، كانت القيادة العسكرية من الحكمة بأن استجابت لمطالب التحول الديمقراطي والمدني في عام 1985 بشرط الحفاظ على بعض امتيازات للمؤسسة العسكرية. وظل العسكر يلعبون دورا هاما في العديد من المناصب التنفيذية ولكن دونما الحاجة للصدام وهو ما جعل بعض دارسي العلاقات المدنية العسكرية يطلقون على هذا النمط "التعايش المدني العسكري" حيث تمتعت القوات المسلحة في البرازيل بدور إداري تنفيذي، غير سياسي، كبير بدءا من أول حكومة بعد الحكم الاستبدادي (1985-90) تحت قيادة خوسيه سارني. وبدا التوافق على هذه الصيغة بحيث لعبت القوات المسلحة دورا هاما في معاونة الشرطة في تحقيق ثلاثة أهداف منها الأمن الداخلي، والعمل التنموي عبر مشاركة المؤسسة العسكرية في مشاريع البنية التحتية ثم المهمة التقليدية للدفاع الخارجي، وهذا يرجع بالأساس إلى الصورة الذهنية التي تكونت لدى العامة من الناس أن الجيش صديق الشعب، لما يقوم به من أعمال تخدم الشعب، وبالتالي سهل من الحفاظ على ميزانيته بل وزيادتها من حين لآخر.
وتعد التجربة الأسبانية نموذجا جيدا للتفاوض على انتقال ديمقراطي سليم يصحح العلاقة بين القوات المسلحة التي حكمت أسبانيا بدءا من1939 وهو التاريخ الذي انتصر فيه جيش الجنرال فرانسيسكو فرانكو في الحرب الأهلية الأسبانية وحتى وفاة فرانكو في عام 1975. وقد جعل فرانكو من القوات المسلحة حصنا له خلال فترة حكمه، فكانت معظم المناصب العليا السياسية والإدارية والتنفيذية في الحكومة للقيادات العسكرية الذين مارسوا احتكاراً في استخدام القوة وفرض النظام العام.[Quote_3]
ولكن مع التحول في البرتغال الذي بدأ في عام 1974 فضلا عن وفاة فرانكو، عادت السلطة السياسية إلى الملك خوان كارلوس بما فتح الطريق للتحول الديمقراطي، حيث بدأت الأحزاب السياسية في الظهور وظهرت قوى سياسية وبدأت في التفاوض مع الفاعلين الموجودين على الساحة آنذاك من أجل بناء أسس النظام الديمقراطي. في ذلك التوقيت كان لزاماً على أي قوى سياسية تريد التفاوض، أن تتعامل مع القوات المسلحة وتعيد صياغة العلاقات المدنية العسكرية، كأحد أهم المحددات لبناء نظام ديمقراطي. وقد تميزت تجربة تحييد المؤسسة العسكرية في أسبانيا بأنها قامت بإعطاء ضمانات للمؤسسة العسكرية، في مقابل الحفاظ على وحدة البلاد، وترسيخ النظام الملكي، واحترام الشرعية، وقد ارتبط بذلك زيادة ميزانية القوات المسلحة في عام 1977 بنسبة 31 % مقابل إنشاء وزارة دفاع يرأسها مدني تتولي كل ما يخص المؤسسة العسكرية، وعلى رأسها الميزانية الخاصة بهم، وإنشاء هيئة أركان مشتركة تضم مدنيين، يتم أخذ رأيها الاستشاري فيما يتعلق بالسياسات العسكرية. وقد مثلت تلك الخطوات حجر الأساس للمدنيين للسيطرة على العسكريين ومن ثم توسيع سلطاتهم في بناء نظام ديمقراطي. ورغما عن كل ذلك تعرضت عملية التحول الديمقراطي لاختبار صعب إثر انقلاب بعض الوحدات العسكرية في عام 1981 وذلك بعد أن أعلن الملك خوان كارلوس بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة – صراحة - انحيازه للديمقراطية.
ومن المفيد في الحالة المصرية ألا يحاول أي طرف من المدنيين أو العسكريين أن ينظر للطرف الآخر باعتباره خصما سياسيا، وإنما أن يتم إعادة رسم حدود العلاقة على أساس التخصص الوظيفي وتقسيم العمل بما يضمن الاستقلال المؤسسي للقوات المسلحة ولكن في إطار من الرقابة السياسية المدنية.