فى ذكراه: «أمير الفقراء».. والعدالة الاجتماعية

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

حينما خرج «أمير الفقراء» من ترع النيل ومصارفها وطميها ومن رائحة الأرض وغيطان زهر القطن وسنابل الرجاء فى وطن جديد يسوده العدل والرحمة والمساواة وبناء نهضة حقيقية لشعب عانى طويلاً من فساد حكم الملك وسيطرة الإقطاع والرأسمالية المستغلة الذين أجاعوه، وجد من يكرهونه ويكفرونه ويرونه علمانياً ملحداً وشيطاناً رجيماً.. حيث بدأت خصومتهم التاريخية له منذ بداية الثورة حينما طالبوا بعرض جميع القوانين والقرارات التى سيتخذها مجلس قيادة الثورة قبل صدورها على مكتب الإرشاد لمراجعتها للاطمئنان لمدى تطابقها مع شرع الله والموافقة عليها، ورفض «عبدالناصر».. ثم حاول أحد المنتمين إلى الجماعة اغتياله فى ميدان المنشية بالإسكندرية فى (26) أكتوبر (1954) فتم إعدامه وإعدام عدد من القيادات المؤثرة للجماعة وإعدام «سيد قطب» فى عام (1966) ومعه خمسة من القيادات وتعرض الإخوان للتعذيب داخل المعتقلات..

إن «جمال عبدالناصر» -كما يرى د. جلال أمين فى كتابه المهم «ماذا حدث للثورة المصرية»- استجاب لمشاعر طبقة مستنيرة كانت تعرف واجبها نحو الغالبية العظمى المحرومة من الشعب.. كما استجاب لظروف دولية كانت فكرة العدالة الاجتماعية فيها حية وقوية وتسعى مختلف المجتمعات لتطبيقها بدرجات وأشكال مختلفة.. فتم إصدار قانون الإصلاح الزراعى الذى كان ثورياً منذ بدايته وزادت ثوريته بتعديله مرتين وفى كل مرة يخفض فيها الحد الأقصى للملكية الزراعية المسموح بها مع إعادة توزيع الأراضى المستولى عليها من الدولة على المعدمين أو شبه المعدمين من الفلاحين.. مع فرض حد أقصى للإيجارات الزراعية غير مبالٍ باعتراضات الإقطاعيين الذين اجتمعوا بـ«على ماهر» رئيس الوزراء فى ذلك الوقت محاولين الضغط عليه لعدم تنفيذ القانون.. فلما انحاز إلى وجهة نظرهم فى أن القانون سوف يؤدى إلى تفتيت الأراضى الزراعية رفض مجلس قيادة الثورة الاستجابة له وتمت إقالته.. كما اقترن مشروع «جمال عبدالناصر» لتحقيق العدالة الاجتماعية بتنفيذ التأمينات الشاملة للملكيات الخاصة الصناعية والتجارية ووضع حد أدنى للأجور واشتراك العمال فى مجلس الإدارة والأرباح، ومنع الفصل التعسفى لهم حسبما يرغب صاحب العمل.. كما تم تعديل نظام الضرائب تعديلاً جذرياً جعله أكثر تصاعدية.. ووضع حد أقصى للمرتبات الحكومية.. كما تحملت الدولة مسئوليات كبيرة فى توفير السلع والخدمات الأساسية للجميع بدعم السلع الضرورية وتوفير الخدمات الرئيسية فى التعليم والصحة والمسكن بأسعار زهيدة.. كما تم تخفيض البطالة إلى أقل مستوى ممكن حيث ساعدت إعادة توزيع الأراضى الزراعية فى تخفيض البطالة فى الريف..

واستوعبت المشروعات الاستثمارية الكبيرة فى الزراعة والصناعة أعداداً كبيرة من المتبطلين المنضمين إلى سوق العمل وضمنت الحكومة توظيف جميع الخريجين الجدد فى الجامعات والمعاهد العليا.. بالإضافة إلى ذلك بناء المساكن الشعبية لمحدودى الدخل وفتح أبواب التعليم المجانى أمام الفقراء.. وإنصاف أبناء الطبقتين الوسطى والدنيا من خلال مكتب التنسيق.. وقانون القوى العاملة.. ثم تأميم قناة السويس وجميع البنوك الأجنبية..

يقول د. عاصم الدسوقى، فى مقال له بـ«الأهرام»: فى هذا الإطار يكفى «عبدالناصر» فخراً أن الفلاح المصرى لم يبرح أرضه بسبب ظروف اقتصادية وأن العامل المصرى لم يهجر وطنه بحثاً عن لقمة العيش وأن جميع المصريين رغم هزيمة يونيو (1967) كانوا يجدون قوت يومهم ويستطيعون علاج مرضاهم.. وأنهم لم يشعروا بالتضخم الاقتصادى الذى أصبح ينهش فى بطونهم بعد «عبدالناصر» وأن المصريين جميعاً كانوا يفخرون بوطنهم.. وطن العزة والكرامه.. وطن السلام الاجتماعى.. وأنهم لم يخاطروا بحياتهم فى البحر فى هروب جماعى إلى أوروبا بحثاً عن فرصة عمل عزت فى الوطن، بل إن «عبدالناصر» على إثر نكتة رُفعت له فى تقرير الرأى العام، فحواها أن مواطناً أثناء أزمة الأرز سافر إلى الإسكندرية للحصول على بعض منه لكنه فى «طنطا» طلب من مفتش القطار النزول فالطابور على الأرز يبدأ من هنا.. وفى اليوم التالى سارعت كل أجهزة التموين لتوفير الأرز بناء على تعليمات الرئيس..

يمكننا إذاً أن نقول إن فكرة العدالة الاجتماعية كانت هدفاً أساسياً شرع «جمال عبدالناصر» فى تحقيقه رغم كل العوائق.. فالعدالة الاجتماعية تتعلق بالفلسفة العامة للدولة وسياستها الاقتصادية العامة.. وكلاهما يتعلق بالموقف الأخلاقى للدولة من قضايا الغنى والفقر.. ونمط التنمية المطلوب.. ونوع النهضة المنشود.. والمساواة فى الحقوق والواجبات وعدم التمييز بين أفراد الشعب أغنياء وفقراء وتذويب الفروق بين الطبقات.. وبين الأقباط والمسلمين.. حتى إنه لم تبرز حادثة فتنة طائفية واحدة فى تلك الحقبة التى عشناها مع «عبدالناصر» منذ قيام ثورة (1952) وحتى وفاته..

ولم يحدث أن اعتكف البابا «كيرلس» فى عصر الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» فى الخمسينات والستينات فى دير الأنبا «بيشوى» احتجاجاً أو غضباً لأسباب سياسية أو لأسباب تمييز دينى تمارسه السلطة ضد الأقباط رافضة الاستجابة لمطالب العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد.. كما حدث فى أيام «السادات» وأيام «حسنى مبارك» مع البابا «شنودة».. وأيام الإخوان مع البابا «تواضروس» بل وافق «عبدالناصر» على بناء الكاتدرائية وتخصيص مبلغ (100) ألف جنيه لذلك وتكليف إحدى شركات القطاع الخاص بتعليمات البناء. وحضر حفل وضع حجر الأساس والافتتاح.. وأصدر قراراً بالتنازل عن ديون الكنيسة..

يتعلق أيضاً بالإضافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية سببان آخران.. أولاً أن عصر «عبدالناصر» كان محكوماً بقضايا كبرى وطنية وسياسية تلتف حولها الجماهير مثل قضية القومية العربية والوحدة والحلم ببناء مجتمع جديد.. لذلك كان العمل الجاد فى شحذ الهمم واستنهاض العزائم فى لم الشمل حول مشاريع وطنية تنموية تستوعب طاقات وجهود أفراد المجتمع دون تمييز دينى فى اتجاه البناء وصنع المستقبل فى جميع المجالات..

ثانياً.. كان ذلك العصر متشدداً جداً -كما يرى د. جلال أمين- فى الفصل بين الدين والسياسة وبناءً عليه لم تظهر بشكل مباشر أفكار وأنشطة التيارات الدينية.. لقد ضرب «عبدالناصر» بيد من حديد أى تطرف دينى قبل أن يستفحل ويتوغل وينتشر فى أرضنا الطيبة.