المزارع السمكية بالإسكندرية.. احتضار الأسماك النيلية فى بلد «المالح»
مئات الصيادين انضموا إلى طوابير البطالة نتيجة التعديات على بحيرة «مريوط»
على الأطراف الشرقية لمحافظة الإسكندرية تطفو عشرات القوارب الخشبية على سطح المياه، على أطراف فى بحيرة «مريوط» يجلس عشرات الصيادين القرفصاء، البحيرة مغطاة بورد النيل، يستظل الصيادون بـ«الهيش» لحمايتهم من أشعة الشمس الحارقة، ينظرون بحسرة إلى صفحة المياه، التى كانت يوماً مصدر أرزاقهم، وطالما أغنتهم عما يسمونه اليوم «حياة الأسفلت».
فى «بلد المالح»، الاسم الذى يطلقه كثيرون على مدينة الإسكندرية، تواجه الأسماك النيلية خطر «الاحتضار»، بفعل تدهور الكثير من المزارع السمكية، نتيجة ارتفاع أسعار الأعلاف، واختفاء الزريعة، وهجر الصيادين لـ«مهنة الصبر»، إضافة إلى لجوء كبار التجار إلى بحيرة «إدكو»، فى البحيرة وكفر الشيخ، لتوفير الكميات اللازمة من الأسماك لأهالى المدينة الساحلية.
اختفاء الزريعة وارتفاع أسعار الأعلاف وهجرة الصيادين والتجار.. أبرز أسباب انهيار «الاستزراع السمكى».. ورئيس «الثروة السمكية» بالإسكندرية: انتشار الصيد الجائر يتم من خلال الصيادين
«تحولنا من كسيبة وأرزقية إلى أعضاء دائمين فى طابور البطالة المُقنعة، بعد إغلاق 300 مزرعة سمكية، كانت تستوعب الآلاف من الصيادين وأسرهم فى أعمال الصيد، وتضخ مئات الأطنان من الأسماك فى أسواق الإسكندرية، وتساهم فى تخفيض الأسعار، وتزويد الأسر بالبروتين اللازم لهم ولأبنائهم، بدون الاعتماد على اللحوم الحمراء أو الدواجن»، بهذه الكلمات بدأ «محمد فوزى»، أحد أكبر صيادى بحيرة مريوط، حديثه عن المعاناة التى يعيشها مئات الصيادين، الذين تعثرت أحوالهم، و«تبدلت أحلامهم إلى كوابيس لا تنتهى»، بحسب وصفه.
وقال «فوزى» إنه «رغم أننى صياد أباً عن جد، إلا أنى لست صياداً أرزقياً، فقد بدأت حياتى باستثمار أموالى فى مزرعة سمكية، تبلغ مساحتها 45 فداناً منذ 25 سنة، من أجل استزراع أسماك مثل الدنيس والقاروص والوقار واللوط والحناش، إلا أننى الآن خسرت كل أموالى، وندمت على اليوم الذى فكرت فيه فى دخول هذا المجال»، وأضاف: «هيئة الثروة السمكية تكاد تكون مصممة على تكبيدنا خسائر موجعة»، مشيراً إلى أن العديد من رجال الأعمال استولوا على مصادر المياه وردموها، لإقامة مغالق أخشاب ومنتجعات سياحية، كما أن «أسعار الأعلاف أصبحت أغلى من المخدرات، والصيادون أنفسهم هجروا المكان الذى ولدوا وتربوا وعاشوا فيه، واتجهوا للعمل فى كفر الشيخ وإدكو»، لافتاً إلى أن إنتاج مزرعته السمكية انخفض إلى أدنى مستوى فى عام 2010، وهو ما أجبره على الاستغناء عن غالبية الصيادين الذى كانوا يعملون معه، ثم واصلت النزيف حتى قرر إغلاقها نهائياً فى 2014.
وعن أزمة نقص الزريعة وعدم إمداد هيئة الثروة السمكية للمزارع بها، قال أشرف الشيخ، أحد صيادى بحيرة مريوط، إن الصيادين أصحاب المزارع يتقدمون بطلب إلى الهيئة للحصول على الزريعة اللازمة، التى حددت حصة لكل فدان وهى 2500 من «العائلة البورية»، وأضاف: «أثناء التسلم نفاجأ بأن الكمية هى 30% فقط من المتفق عليه، على الرغم من سداد كامل القيمة المالية»، وتابع: «بعد انخفاض كميات الزريعة، انخفضت إنتاجية الفدان، بخلاف المتطلبات المادية الأخرى، من إيجار وعمالة وتجهيزات والخسائر المستمرة، إضافة لارتفاع أسعار الأدوات والأعلاف على مدار السنوات الخمس الماضية، ما دفعنى لاتخاذ قرار بإغلاق المزرعة، عقب نهاية هذا الموسم».
صيادون: إغلاق 300 مزرعة دفعنا إلى طوابير البطالة.. ورجال الأعمال ردموا البحيرة لإقامة منتجعات سياحية
ومن «أبيس» إلى بحيرة مريوط، فى منطقة «كوبرى العبيد»، قبل بوابات الإسكندرية، يقف الصيادون على مراكبهم، ينتظرون «الفرج»، وتمر أمام أعينهم مشاهد تحملها الذاكرة، عندما كانت مزارعهم السمكية فى البحيرة تنتج ما يزيد على 15 طناً من الأسماك يومياً، قبل أن يتم انتهاكها من قبل الشركات، وردم مساحات كبيرة منها، وعن ذلك قال «محمد فريد»، أحد الصيادين: «الكتل الخرسانية حلت مكان الثروات الطبيعية، فكانت النتيجة تدمير بحيرة مريوط، والقضاء على المزرعة الربانية، والبحث عن مزارع بملايين الجنيهات لإنتاج أسماك بلا طعم ولا رائحة، والتى فشلنا أيضاً فى تشغيلها»، وتابع «عم فريد»، صاحب الـ70 عاماً، بقوله: «كنا ننتج ما يزيد على 25 طناً من الأسماك مختلفة الأنواع يومياً، أما الآن نقيم الأفراح إذا ما تمكنا من إنتاج طن سمك بلطى».
وقال «فتحى السيد»، أحد الصيادين: «كل الكبارى والدخان والمصانع دى ماكانتش موجودة، فقط البحيرة، فقط الثروة السمكية، أما الآن فكل شىء ضاع، وتبخرت معه أحلامنا ومستقبل أبنائنا»، بينما قال «الحاج رزق عبدالعال»، شيخ صيادى بحيرة مريوط: «البحر المالح جعل من المزارع السمكية تحصيل حاصل، ولما قفلت مفرقتش كتير مع الناس، رغم إنها كانت سبباً مباشراً فى انخفاض أسعار أسماك البحر»، وأضاف: «شهدت الأعوام العشرة الأخيرة إغلاق ما يزيد على 350 مزرعة سمكية بالإسكندرية، كانت تسهم فى دعم السوق المحلية بنسبة 40%، إلا أن افتقاد الزريعة من جميع مصادرها، سواء الطبيعية أو الصناعية، التى تقف وراءها ضمائر تنام فى سبات عميق، ولا مبالاة تحيط بهذا المجال برعاية مافيا وسوق سوداء، أدت إلى حتمية إغلاق تلك المزارع»، وأوضح أنه «من المتعارف عليه أن هناك نسبة وفاة للزريعة، تصل إلى 20% فقط، إلا أن الحال وصل بنسبة الوفاة إلى أكثر من 50%، وذلك نتيجة عدم قيام الهيئة بتقديم الدعم الفنى، من تحاليل ومتابعة حالتها، أثناء الموسم»، وأضاف: «حتى بعد إغلاق المزارع ولجوء الصيادين إلى مياه البحيرة المفتوحة، نفاجأ بتزايد كبير فى نسب نفوق الزريعة التى نشتريها من الهيئة، ولا نجد منها دعماً أو رداً، وعندما نلجأ لشرائها من السوق الحرة، نفاجأ بارتفاع فلكى ومجنون فى الأسعار، يجبرنا على ترك المهنة إلى الأبد».
وعن معاناته يبدأ «طارق الساعاتى»، صياد، حديثه بالقول: «ما زلت أكافح وأقاوم حتى لا أترك مهنة أجدادى»، مؤكداً أنه أنفق نحو ثلاثة ملايين من الجنيهات على تجهيز مزرعة سمكية، وخسر فيها كل ما يملك قبل أن يضطر إلى إغلاقها، إلا أنه ما زال متمسكاً بالصيد كمورد وحيد للرزق له ولأسرته، وعن سبب إغلاقه لمزرعته، يضيف: «عانيت مرارة الخسائر التى لا تتوقف، ولا أحد يشعر بنا، إذ أتممت دورة المحصول السمكى وهى 3 سنوات، لكنى لا أتمكن من بيعه أو حصاده، وذلك بسبب فروق الأسعار بين الأسماك المعروضة فى السوق، وبين نفقاتى المرتفعة على المحصول، التى تسببت فيها السوق السوداء، التى أشترى منها أغلب احتياجاتى، وبخاصة مع ارتفاع سعر العلف لأكثر من 25%، حتى أصبح سعر الطن أكثر من 4500 جنيه»، وتابع بقوله: «سيطرت السوق السوداء على تجارة الزريعة السمكية بالإسكندرية، ورفعت أسعارها بالصورة التى جعلت الصيادين يقدمون بكثرة على عمليات الصيد الجائر، فى فترات التكاثر حسب أنواع الأسماك المتوفرة فى هذا الوقت من العام، وبيعها بأسعار كبيرة، ما يهدد الثروة السمكية، بعد أن وصل سعر زريعة البورى والقاروص إلى 115 جنيهاً للكيلو».
وفى المقابل، قال رئيس الهيئة العامة للثروة السمكية بالإسكندرية، المهندس سلامة أبونعمة، لـ«الوطن»، إن نشاط الصيد الجائر يتم من خلال الصيادين، بعيداً عن الهيئة التى لها محطات فى مداخل أماكن الصيد، لتجميع الزريعة من البحر، وإرسالها إلى المزارع الأهلية والحكومية، من خلال نقلها بطرق آمنة بهدف زيادة وتنمية الثروة السمكية، وأضاف أن تلك المحطات مرخصة بأماكن محددة، ويقوم بالإشراف عليها مهندسون يتم تعيينهم من قبل الهيئة، مشيراً إلى أن الصيد الجائر يتم بأسلوب عشوائى، ما يعد إهداراً للثروة السمكية، وأضاف أن الهيئة تشن حملات دورية لمنع الصيد الجائر، وتطهير بحيرة مريوط، لزيادة الإنتاجية، مؤكداً أن الهيئة حريصة على إلقاء الزريعة بشكل دورى فى المواعيد المحددة لها، وأن الأزمات التى تلاحق المزارع السمكية الخاصة بالإسكندرية تعود إلى التكلفة العالية لإقامة المزرعة، بالإضافة إلى التكلفة المرتفعة للعلف، كما أوضح أن المزارع السمكية فى محافظتى البحيرة وكفر الشيخ تسد الاحتياج السوقى من الأسماك بالإسكندرية، نظراً لتوفر البيئة المناسبة للاستزراع، مشيراً إلى أن أغلب كميات الأسماك التى تأتى من المزارع تكون من إدكو وكفر الشيخ، وأوضح أن الهيئة تُعد خططاً مستقبلية لمواجهة السوق السوداء فى الزريعة والأعلاف، بغرض الارتقاء بمستوى منظومة الاستزراع السمكى.