أقباط عزبة عاصم: الجلسات تأتى على الطرف الضعيف.. ولا تستطيع حل الأزمات بشكل نهائى
أقباط عزبة عاصم بعد جلسة صلح عرفية
على أريكة خشبية متهالكة، جلس «فيلمون رسمى» بجلبابه الرث، وعمامته البيضاء، يتكلم بهدوء وغضب مكتوم، يروى لـ«الوطن»، عن اندلاع الأزمة الأخيرة بينهم وبين مسلمى عزبة ناصر، التابعة لقرية «إدمو»، بعد مشاجرة نشبت بين سيدة قبطية، كانت تجلس تغسل الأوانى النحاسية على ضفاف بحر يوسف (أحد فروع نهر النيل)، وشاب مسلم كان يسبح فى البحر، انتهى بمشاجرة وقع على أثرها بعض الأقباط مصابين بجروح قطعية وإصابات دموية.
قرية بعد الصلح: الفتنة ليست نائمة
الدخول لعزبة ناصر التابعة لمركز المنيا، ليس بالأمر السهل، يتطلب المرور من بين شوارع ضيقة وحوارى وأزقة قرية «أدلو»، وبمجرد السؤال عن طريقه حتى يبادرك المارة: «العزبة اللى فيها مشاكل المسلمين والنصارى»، فتلك المشكلة لم تكن الأولى بين أقباط القرية الذين يتمتعون بأغلبية تصل إلى 75٪ من سكانها حسب «رسمى» ومسلميها.
تتكرر الأزمات بين المسلمين والمسيحيين ودائماً ما يكون الحل من خلال عقد جلسات صلح عرفية لإنهاء الأزمة، يقول «رسمى» إن أهل العزبة شكلوا لجنة صلح داخلية لحل أزماتهم المتكررة، بدأت تلك اللجنة من جانب المسيحيين، الذين شكلوها لحل الأزمات بين الأقباط وبعضهم البعض، ولكن سرعان ما انضم لها عدد من المسلمين لتكون حاضرة وبقوة فى الأزمات الطائفية.
العمدة: خلق الأزمات دائماً يأتى من الأمن الذى لا يعرف طبيعة العلاقة بين الناس فى القرية
إلى جانبه يجلس «نبيل عيسى» بوجه متجهم، جذب منه طرف الحديث، يمقت تلك الجلسات، ويصفها بأنها تأتى دائماً «على الحيطة المايلة»، فلا يجد فى أحكامها عدلاً يذكر، ولا تصفى النفوس الثائرة بين الطرفين، بل حسب روايته دائماً ما تنفذ قراراتها على الجانب الضعيف.
بعصبية مفرطة يشير «عيسى» إلى الأزمة الأخيرة، التى انتهت بجلسة صلح عرفية قضت بغرامة مالية قدرها 5 آلاف جنيه على المعتدين لصالح القبطى المصاب، وهو المبلغ الذى يجده ضعيفاً ولا يحقق الردع الكافى لعدم تكرار تلك التصرفات مرة أخرى، وفى النهاية الأسرة المسلمة رفضت الدفع: «قالوا هنجيب منين معناش»، وحينها لم تصر الأسرة القبطية على المطالبة بحقها واكتفت بالصلح، ومُنع الشباب من السباحة فى أماكن وجود النساء، مقابل التنازل عن حقوقهم الجنائية فى حق المعتدين.
«إحنا اللى متداس علينا فى البلد دية ومحدش بيعرف يفتح بقه رغم إننا أغلبية فى القرية»، يقول «عيسى» إن تلك الجلسة لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة وإن جلسات المصالحة فى القرية تعددت، ولكنها لا تنهى تلك الأزمات، التى سرعان ما تتجدد مرة أخرى، يحاول «رسمى» تهدئة ثورته قائلاً: «بس برضه فيه نتيجة.. المهم إن الأمور دلوقتى بقت هادية والقرية عادت لطبيعتها».
الدعوة لتشكيل جلسة الصلح جاءت من جانب المسلمين، فى البداية كان يرفض الأقباط الصلح، الشيخ محمود معتمد، أحد أعضاء لجنة المصالحة المشكلة فى القرية، تواصل مع أحد كبار الأقباط وطالبهم بإجراء جلسة صلح عرفية على الفور لإنهاء الأزمة وكبح جماح الغضب، ولكنهم رفضوا مطالبين بالقصاص، ولكن سرعان حسب رواية «معتمد» ما وافقوا على الحل بتلك الجلسات.
انتهت الأزمة بعد الجلسة، ولكن الغضب ظل مكتوماً فى الصدور، سرعان ما نشب خلاف جديد بين بعض الشباب القبطى ومسلم، وعادت الجلسة للانعقاد من جديد، ولكن اكتفى «معتمد» ورجال جلسة المصالحة بتوجيه اللوم للمخطئ والتحذير من تعدى أى طرف على الآخر مرة أخرى.
يرفض «معتمد» وأهل القرية من أعضاء لجنة المصالحة الداخلية اللجوء للشكل التقليدى من جلسات الصلح العرفية، التى تتشكل من كبارات القرى ورجال الدين قائلاً: «الجلسات دية بتاعة شو إعلامى وإحنا أهم حاجة نفضل كمسلمين ومسيحيين فى القرية على وفاق»، ورغم أن جلساتهم للصلح القروية تختلف اختلافاً طفيفاً عن جلسات الصلح العرفية بشكلها التقليدى، ولكنه يرفض أن يشبهها بذلك: «إحنا لا بناخد شيكات على حد ولا يمكن نهجر حد من البلد»، ويجد فيها مصطلحاً آخر: «جلسات فض النزاع»، وليست جلسات صلح عرفية، التى لا يلجأون إليها إلا إذا تفاقمت الأمور، وليس فى المشاكل الطائفية وحدها ولكن حتى فى المشاكل بين المسيحيين وبعضهم البعض.
صليب محروق معلق على حائط ملطخ بالسواد، أعمدة متفحمة، وبقايا أثاث مشتعل، هذا كل ما تبقى من خيمة كانت تؤوى صلوات الأقباط فى قرية الإسماعيلية، القابعة فى غرب مركز المنيا، بعدما أغلقت الشرطة كنيستهم التى بنيت على أطراف القرية لدواع أمنية، وبعد احتراق تلك الخيمة البالية، لم يعد لهم مأوى سوى العراء، يصلون تحت أشعة الشمس الحارقة.
فى منزل أنيق مطلى بالألوان الزاهية، ومزين بصور الرئيس عبدالفتاح السيسى مرتدياً البذلة العسكرية، يجلس «إبراهيم غنوم» عمدة قرية الإسماعيلية، يقول بكلمات منمقة إنهم شكلوا فى القرية لجنة لفض المنازعات، مهمتها قائمة على حل الأزمات الطائفية وغيرها من المشاكل قبل اندلاعها.
يلتف حول العمدة الكثير من المسيحيين، يشاركونه تلك الجلسات باستمرار، يقول أحدهم بشكل ساخر: «إحنا سمن على عسل ومش ناقص غير إننا نتجوز من بعض»، تضج القاعة بالضحكات، العمدة يقول إن خلق الأزمات فى القرية يكون دائماً من قبل الأمن، الذى لا يعى العلاقة بين المسلمين والأقباط، ودائماً بتصرفاته غير الواعية يزرع الفتن.
يقول «غنوم» إنهم لا يرفضون بناء الكنيسة، التى أغلقها الأمن لدواع أمنية، ولكن الأقباط يتفهمون ذلك، وهو ما وأد فتنة كانت تشتعل فى النفوس بسبب إغلاق الكنيسة، التى تبرع العمدة بعدها بقطعة أرض لبناء تلك الخيمة المحترقة لأداء صلواتهم.
يحتفظ العمدة بصورة الخيمة وصلوات المسيحيين داخلها على هاتفه الشخصى، كما يحتفظ بصور الجلسات التى أعقبت حرقها، والتى انتهت بتسليمه للفاعلين للشرطة بنفسه، حتى يهدأ أهل القرية من المسيحيين، الذين التفوا حول الخيمة المحترقة، ولم يثنهم عن المكوث معتصمين إلى جانبه إلا كلماته المنمقة التى طالبهم فيها بالعودة لمنازلهم وحقهم سيأتى لا محاله لتنتهى المشكلة دون أى أزمات ويقول: «إن جلسة فض المنازعات تعمل على حل الأزمة من قبل أن تبدأ ودون اللجوء لتدخل خارجى».