قس طهنا الجبل: الأزمات متكررة والجلسات لا تجدى نفعاً ومجرد مسكنات
قرية طهنا الجبل شهدت مقتل مسيحى خلال الفتنة الأخيرة
بيوت ما زالت على هيئتها الريفية من الطين اللبن، طابق أو طابقين على الأكثر، ذات ألوان زاهية، الغضب المكتوم ما زال فى النفوس، فى قرية «كوم اللوفى» التابعة لمركز سمالوط بمحافظة المنيا، الهدوء يخيم على القرية، الجميع يرمق الغرباء المقبلين على درب النصارى، موقع تجمع للمسيحيين فى كل قرى المحافظة، وبمجرد الدخول داخله يظهر بناء لم يكتمل محترقة جدرانه، ذلك هو بيت أحد الأقباط الذى ظن مسلمو القرية أنه يشرع فى بناء كنيسة، فقامت الدنيا ولم تقعد، ومن حولها يرابط عدد من عربات الشرطة، التى رفضت السماح لـ«الوطن» بالحديث مع الأهالى.
قرية رفضت الصلح: القصاص أولاً
إبراهيم خلف بجلبابه الرث، وملامحه المنهكة، ترك القرية بصحبة شقيقيه وتوجه للقاهرة للبحث عن حقوق أسرته، التى فقدت منازلها، بعدما هجم عليها عدد من المسلمين بسبب وشاية من البعض بأنهم بصدد بناء كنيسة، «كعب داير» على مؤسسات الدولة وكل يعد بحل الأزمة، التى يروى تفاصيلها لـ«الوطن» قائلاً: «إحنا وإخواتى أسرة مكونة من 24 فرد عايشين فى مساحة بيت 40 متر، حوش جراج بناكل منه عيش وفى نفس الوقت سكن»، ولكن بدأت الأزمة حين شرع أخواه «أيوب وإيهاب»، فى بناء منزلين ليقطنا فيهما،
«طلعت إشاعة فى البلد إننا بنبنى كنيسة» يقول «خلف» مشيراً إلى أنه على الفور توجه عمدة البلد للمنزل وأوقف عملية البناء وقبض عليهم وتوجه بهم نحو مركز الشرطة، وهناك وقّع الأشقاء على تعهد بعدم بناء كنيسة، وأن أبنيتهم ما هى إلا منازل صغيرة لتحوى أطفالهم الصغار: «إحنا ماشيين تحت الأرض».
إشاعة خرجت عن بناء كنيسة فأمر «العمدة» بوقف العمل وقبض على العمال وأرسلهم لمركز الشرطة
لم يكتف الأشقاء بذلك ولكن تجنباً للشبهات، كتب أشرف شقيق خلف منشوراً يتعهد فيه بأنه لن يبنى كنيسة وأنه منزل صغير لأسرته، «راح موزع المنشور على أهل البلد»، ولكن كان هناك من يصمم على هدم جدران المنزل الذى كان فى طور البناء، احتمى خلف وأسرته بمركز الشرطة حسب روايته، ورغم إرسال الشرطة لعدد من القوات ولكن لم يكن لها جدوى: «نزلوا هدوا البيت وحرقوه وكسروا عربيات الشرطة وضربوا الجنود والضباط وهما بيصرخوا لا إله الله وولعوا فى التلات بيوت التانيين وحاولوا الاعتداء على ولادنا ويرموهم فى النار»، هرب خلف وأشقاؤه من البلد، هربوا فى الزراعة الممتدة خلفهم «ولادنا والأطفال الصغيرة والستات وديتهم عند بيت خالى» توجه إلى مركز سمالوط لتحرير محضر، الذى جهز قوة وقبض على 16 فرداً من المعتدين ولكن فوجئوا بمحاولات العمد والمشايخ المستميتة فى حل الأزمة من خلال جلسة صلح عرفية وهو ما رفضه خلف وأسرته: «عايزين يحلوا من طرف واحد طبعاً أهم حاجة يطلعوا ولادهم»، ويستطرد: «إحنا الطرف الضعيف فى الموضوع.. ندوس عليه ونعمل فيه اللى عايزينه»، ولم تكن فقط محاولات إقناعهم بالصلح ولكن: التهديد بره بقتل ولادنا وخطفهم لو ماتصالحناش»، ولكن بعد 12 يوماً خرج المقبوض عليهم.
كان خروج المقبوض عليهم فى الحادث وقعه أشد عليهم من الحادث نفسه: «طلعوا يمشوا فى البلد ويضربوا نار وخرطوش وأى بيت مسيحى يلقوه يضربوه ويحدّفوه بالطوب، فهربت الأسرة إلى القاهرة»، واحتموا بالكنيسة التى تواصلت مع الداخلية ومجلس الشعب الذى استمع لمطالبهم، التى لم تكن سوى إصلاح ما أتلفه المعتدون وبناء المنازل المحترقة والجدران المتهدمة، وسط إصرارهم على عدم الصلح العرفى: «القصاص أولاً ولا شىء غيره والقانون علينا وعليهم».
جنوباً، كانت هناك أزمة أخرى تلوح فى الأفق، فى قرية لها من اسمها شىء، حيث من فوق هامات المنازل يظهر «الجبل» جلياً، هى له ومنه «طهنا الجبل»، تظهر منازلها مصفوفة على الجانبين، ويمتد بينها مصرف زراعى خاوٍ يشطر القرية نصفين، وفى نهايتها تظهر كنيسة «مار مينا العجائبى» الأثرية بصلبانها المتهالكة المستندة على ألواح للترميم، ومن خلفها آثار القرية القديمة، ومعبد رومانى قديم ومحجر يعود تاريخه لما قبل الميلاد، هنا القرية العتيقة التى شهدت اشتباكات بين المسلمين والأقباط سقط على إثرها القبطى «فام مارى خلف» وعدد من المصابين أحدهم ابن قس الكنيسة «متاؤس»، ورفض أقباطها محاولات الصلح العرفية.
الهدوء يخيم على القرية بعد عشرين يوماً من الحادث، إلا من ضوضاء مكبرات صوت لفرح أقيم شادره بجانب الكنيسة، التى تظهر عليها عمليات توسعة وإنشاء مبان جديدة، وفى الداخل يجلس القس «أشعياء»، تحدث لـ«الوطن» بكلمات مقتضبة، كان فحواها رفضاً لكل محاولات الصلح العرفية: «كانت مسكنات لن نرضى بها»، ويردف: «هنا قتيل وقاتل وننتظر القصاص العادل.. وملتزمون بقرار الكنيسة»، مشيراً إلى مطرانية المنيا، التى رفضت جلسات المصالحات العرفية وما سيخرج عنها من قرارات فى تلك الأزمات المشتعلة بالمنيا.
حول بيت العمدة ترابط قوات الأمن، وفى الداخل يتوافد على المنزل العتيق الكثير من قيادات المحافظة التى أقبلت على القرية لإنهاء الأزمة، وبجلبابه الأنيق، ومن خلفه تظهر صور أجداده من عمد القرية بالأبيض والأسود، يجلس الدكتور «عمرو حسن»، يقول إنهم حاولوا حل الأزمة مع كل طرف على حدة، وتلك المرة هناك قتيل ويجب أن يقتص من القاتل، حتى لو أعدم، ولكن اتفقنا مع كبارات العائلات القبطية أن تلك الأزمة عائلية وليست طائفية ونتركها للقانون يأخذ مجراه ولن تحدث شرخاً بين أهل القرية.
الرجل الخمسينى انتهى قبل الأزمة الطائفية من حل فتنة بين عدد من العائلات المسيحية كادت تعصف بالقرية وحملوا فيها السلاح على بعضهم البعض، ولم ينهها إلا من خلال جلسات صلح عرفية: «أجيبلك شيكات الصلح اللى مضوها من عندى جوه»، ويقول إنهم اعتادوا على حل أزماتهم بتلك الطريقة، وحتى الأزمات ما بين الأسر القبطية وبعضها ينتهى بها الحال فى ذلك المنزل لتحل وتنتهى، ولكن تلك المرة الأمر مختلف، وبكل إصرار يقول: «مفيش فتنة فى قريتنا وده خلاف ما بين عائلتين، وهييجى اليوم اللى هنقعد فيه ونتصالح ونصفى الخلاف»، مشيراً إلى أنه جلس مع كل طرف على حدة لتهدئة الأمور: «يا رب العيال يتعدموا احنا مش ضد القانون بس لازم برضه نقعد ونعمل جلسة صلح عشان النفوس تتصافى».