تركيا الجديدة.. أردوغانية إقصائية إسلامية

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

المؤكد أن تركيا قبل 15 يوليو الحالى ليست تركيا صباح اليوم التالى، الذى شهد ما يعرف بفشل انقلاب عسكرى قادته زمرة محدودة، حسب وصف الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان. ورغم أن هناك أسئلة كثيرة للغاية حول طبيعة هذا الانقلاب، وهل هو محاولة انقلاب جدية، أم أنها تمثيلية كما يقول البعض أشرف على تنفيذها «أردوغان» بنفسه أو من خلال رئيس مخابراته المقرب منه، هاكان فيدان؟ فضلاً عن أسئلة حول مدى معرفة دول كبرى كالولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا بالتحضير لانقلاب عسكرى فى تركيا من عدمه، خاصة أن تحليلات عدة لمحللين عسكريين مرموقين نشرت فى الولايات المتحدة وبريطانيا منذ مطلع العام الحالى، تحدثت بصراحة عن احتمال حدوث انقلاب عسكرى ضد «أردوغان» نظراً للتراجعات التى تراكمت فى السنوات الخمس الأخيرة من حكمه ونزعته الفردية التى باتت خارج السيطرة. وإلى أن تتضح الإجابات وتعرف الحقائق، فهناك أمر مؤكد وهو أن تركيا ما بعد 15 يوليو هى تركيا جديدة، علينا أن نراقب ما يحدث فيها، وما يمكن أن يمثله ذلك من فرص أو تحديات للسياسة المصرية.

بداية يمكن القول ووفقاً للمعطيات الأولية التى عبر عنها «أردوغان» بكل وضوح أن تركيا الجديدة هى تركيا التطهير والتصفية لكل الرموز العسكرية والقضائية والإعلامية والدبلوماسية والحزبية، سواء تورطت بشكل مباشر أو هى محل شبهات بأنها أيدت أو ربما كانت على وشك تأييد الانقلاب، والأهم أن هؤلاء جميعاً يعتقدون إما فى قيم الدولة الأتاتوركية العلمانية أو قيم «حركة الخدمة» التى أسسها فتح الله جولن، وما زال الزعيم الروحى لها رغم إقامته فى الولايات المتحدة منذ أكثر من عقدين. وهى الحركة التى يعتبرها «أردوغان» دولة موازية، رغم أنها الحركة التى لعبت دوراً حاسماً فى السنوات الخمس الأولى من تولى «أردوغان» رئاسة الوزراء لتدعيم حكمه ومساندته بكل قوة فى الانتخابات وتوفير أموال لحزب العدالة والتنمية لكى يوطد انتشاره فى البلاد.

التطهير هو العنوان الأبرز للمرحلة الأردوغانية الجديدة، وهى تعنى باختصار إقصاء كل المعارضين الرافضين مساعى «أردوغان» فى تعديل الدستور ليصبح دستوراً رئاسياً يطلق له الصلاحيات بلا حسيب أو رقيب، وإقصاء كل الرافضين لتحويل تركيا إلى دولة ذات دستور دينى وفقاً لما أشار إليه رئيس البرلمان التركى، إسماعيل كهرمان، بعد يوم من الانقلاب الفاشل، من أنه «حان الأوان لاعتماد دستور إسلامى». وهو نفسه الذى أعلن أبريل الماضى فى مؤتمر عقد فى إسطنبول «كبلد إسلامى، ينبغى أن يكون لدينا دستور دينى، لا مكان فيه للعلمانية»، فضلاً عن تأييده النظام الرئاسى.

التطهير هنا يعنى أيضاً تمهيد الساحة التركية بكل مفرداتها إلى تغييرات عميقة فى منظومة القيم التى نشأت عليها الدولة التركية فى العام 1923، فضلاً عن إنهاء أى تأثير لحركة الخدمة التى يراها «أردوغان» المنافس الأول له ما دام الصراع يدور على من يمثل الدين ويوظفه فى السياسة، وما دام «أردوغان» يكره وجود منافسين له فلا مناص من التخلص منهم ليبقى فقط هو الزعيم والمحرك والرمز. دولة «أردوغان» الجديدة هى دولة ذات نزعة دينية ستحرك كل مؤسساتها الداخلية وتحركاتها الخارجية، وسيكون علينا توقع، فى حال استتباب الأمر على هذا النحو حالة توازن إقليمى جديد بين القوى الثلاث الكبرى التى تلتزم توجهات دينية فى صلب عملها السياسى، وهو توازن لن يخلو من منافسة وربما صراع من أجل المكانة الإقليمية والدولية ومد النفوذ إلى دول ومجتمعات أخرى عبر جماعات وحركات موالية، ومن ثم نرجح استمرار مساندة تركيا الأردوغانية الجديدة لقوى الإسلام السياسى التى تدور فى فلكها، وأبرزها حركة الإخوان الإرهابية والجماعات المسلحة فى سوريا، وكما تتحرك إيران لدعم ومساندة القوى والحركات والأحزاب الشيعية فى دول الإقليم، ستتحرك أيضاً تركيا لدعم الحركات الموالية لها فى الدول ذاتها. سنكون أمام منافسة على مد النفوذ على أسس دينية ومذهبية، وسيلحق بذلك المزيد من الاضطرابات فى عدة دول سوف تستهدفها سياسة الدولة التركية الأردوغانية الجديدة.

لكن التطهير لن يخلو من صعوبات، فإعادة بناء الجيش التركى وتخليصه من رموز الأتاتوركية العلمانية وإحلال قيادات تؤمن بالقناعات الأردوغانية، فضلاً عن الولاء الشخصى التام للرئيس، سيتطلب فترة نقاهة وإعادة تنشئة قد تستمر عدة سنوات، فى حين أن الجيش متورط أصلاً فى مواجهات حربية عنيفة مع الأكراد فى الجنوب. والمؤكد هنا أن تعمد وسائل إعلام تركية موالية لـ«أردوغان» نشر صوراً تحمل الإهانة والإذلال لعناصر الجيش التركى على ذمة كونهم عناصر انقلابية، أياً كانت رتبتهم العسكرية، هدفه الأول والأخير التأثير على معنويات كل القيادات والجنود الموجودين فى الخدمة، وأن مصير من يتآمر على «أردوغان» وحزبه وقناعاته الجديدة هو الإذلال بأقسى صورة، وغالباً الإعدام لكبار المتورطين بعد تعديل الدستور ليسمح بمثل هذه العقوبة بعد إلغائها قبل عقد مضى إرضاء للاتحاد الأوروبى. ومن الصعب الآن توقع كيف سيكون رد فعل القيادات العليا والوسيطة التى سيتم الإبقاء عليهم ولكن تحت رقابة مباشرة من جهاز المخابرات الموحد، الذى يرأسه هاكان فيدال، المقرب جداً من «أردوغان» شخصياً. هذا الجيش التركى الجديد المنكسر فى معنوياته سيكون أيضاً تحت نفوذ قوات الأمن والقوات الخاصة التى أثبتت أنها أكثر فعالية من الجيش فى حماية النظام. ولكن المؤكد أن كثيراً من الجنود والضباط سيظلون متأثرين بطريقة قوات الأمن التركية التى أهانت وضربت وتركت عناصر ذات ذقون تذبح زملاء لهم على الملأ، وتفرض على آخرين أن يكونوا عُراة حُفاة يُضربون بالسياط.

تركيا «أردوغان» الجديدة لن تعرف عضوية الاتحاد الأوروبى، هذا الحلم انتهى، لدى الأوروبيين ألف سبب الآن للقول صراحة وجهراً لا لدولة تركيا «أردوغان» الدينية التى تعيد العمل بعقوبة الإعدام والتى ستعتمد دستوراً دينياً. ووفقاً لتقديرات مؤسسات متخصصة فى تحليل المخاطر، فمن المرجح ولفترة قد تمتد عدة أشهر سيكون على المستثمرين للمشروعات الكبرى أن ينتظروا قليلاً حتى تتضح المؤشرات الاقتصادية. وحسب تقرير بلومبرج الأمريكية، فغالباً «سنرى رؤوس الأموال الأجنبية تفر من الدولة؛ لأن عدم الاستقرار السياسى يخلق المزيد من المخاطر التى لا يحتاجها المستثمرون».

نعم لقد فشل الانقلاب وكسب «أردوغان»، لكن تركيا التعددية والناهضة اقتصادياً خسرت نفسها إلى مدى لا يعلمه إلى الله.