حكايات من ليلة «الموت» على البساط الأخضر

كتب: أحمد الليثى

حكايات من ليلة «الموت» على البساط الأخضر

حكايات من ليلة «الموت» على البساط الأخضر

حبه لمعشوقه قاده للموت، كان أول الحاضرين، وآخر العائدين، سمع أنّات الموتى، وبكاء الثكلى، ونحيب المحبين، وعويل الرفاق المبتهجين قبل ساعة.. ترددت على مسامعه صيحات المنتصرين «الزائفة» بعدما تمكنوا من سلب أرواح الأبرياء، غير أن الصدفة وحدها حولت دفة حياته من «ضحية» إلى «شاهد». يروى المأساة وكأنها الأمس، رغم مرور عام كامل، لا تفارق الصورة مخيلته، فقط كانت تدابير القدر أوسع أفقاً من خياله. الأربعاء 1 فبراير 2012.. من داخل استاد بورسعيد، حيث ساحة كرة خضراء تسُر الناظرين، تحوم حولها روح إبليس وأيدى ملاك الموت تترقب حصد الأرواح فى الموعد المحدد سلفاً، تضع القدم اليمنى لـ«عبدالله سيسيه» -مهاجم المصرى- الكرة فى شباك الأهلى فى الدقيقة الأخيرة من المباراة، فيقرر «أحمد صبرى» مشجع المارد الأحمر مغادرة مقعد حسن حمدى رئيس النادى «الغائب» من داخل المقصورة الرئيسية، قبل أن تعيده الوساوس ومكالمة تليفونية و«الصدفة» من خارج الاستاد إلى الملعب ثانية ليتابع لحظات كارثية صار فيها خليط الذهول والصدمة والشلل النفسى والعجز عن النطق كفيلاً بإيقاف الزمن عند ذلك المشهد. البداية كانت إصراراً عجيباً من «صبرى» على الذهاب لمشاهدة المباراة من داخل الملعب، لا يعرف حتى يومنا هذا سبباً لإصراره وقتها، اتفق مع «شلة» الاستاد على حضور مباراتى فريقهما أمام «المصرى» ومن بعده «الزمالك»، كان جدول الدورى يشير إلى أن مباراة القمة يحين موعدها الجمعة 3 فبراير، فيما تحدد ميقات مباراة المصرى الأحد 29 يناير، ما تهللت له أسارير رفاق المدرج، فالحصول على يوم إجازة واحد من العمل أمر يسير، غير أن الاحتفال بالذكرى الأولى لثورة يناير رحّل الجدول أياماً، ليحين ميعاد المباراة فى الأول من فبراير، فيما كان تشبُث طالب الفرقة النهائية من كلية الهندسة بموقفه كافياً للذهاب دونهم. العقارب تشير إلى الرابعة عصراً، ساعة ويبدأ اللقاء، لا يملك «صبرى» ورفاق السفر تذاكر للدخول، غير أن علاقاتهم باللواء الفيشاوى -مدير أمن النادى الأهلى- سنحت لهم بالجلوس فى المقاعد المخصصة لأعضاء مجلس إدارة الأهلى «الغائبين» عن المقصورة الرئيسية، فيما لا تزال جموع «الألتراس» فى طريقها يتابعها «صبرى» عبر الهاتف دقيقة بدقيقة. فى الوقت الذى أغرقت شبكة الإنترنت أنباء عن محاولات اقتحام بعض مشجعى النادى المصرى فندق لاعبى الأهلى، ليلة المباراة، وتوالت تدوينات أعضاء «جرين إيجلز» -ألتراس المصرى-: «الحفلة جاهزة.. اللى هييجى بورسعيد يجيب كفنه معاه»، كان صبرى يكتب على صفحته الخاصة على «فيس بوك»: «مين رايح بكرة الماتش ييجى معايا».[Image_2] اتصال من «محمد عبدالوهاب» عضو مجلس إدارة النادى أكد أنه سيكون رفيقه، بصحبة خالد مرتجى عضو مجلس الإدارة، فيما كان الاتفاق مع «ممدوح» و«حافظ» أبقى، بعدما اعتذر «عبدالوهاب ومرتجى» عن عدم الحضور لظروف العمل، اتصال «صبرى» مع «الألتراس» المستقلين قطار «قشاش» لم ينقطع، فخروجه فى ساعات مبكرة من الصباح منعه من ركوبه معهم، علاوة على تشاؤمه من القطارات، فى تمام الثانية والنصف وصلوا المدينة الباسلة «أكلنا فى فندق اللاعيبة وسلمنا عليهم بسرعة عشان جوزيه فى الأوقات دى بيكون جد جداً». لم تكن المرة الأولى التى يحضر فيها الشاب العشرينى لقاء للأهلى داخل بورسعيد، غير أن الأجواء كانت توحى بالغموض «شحن زيادة عن اللزوم وأمن منفلت وجرأة من الجمهور غير طبيعية»، لاعبو الأهلى ينزلون إلى أرض الملعب فتصوب تجاههم الألعاب النارية دون رادع، فيما يبتهل «صبرى» فى سره «يارب استرها». تأخر «الألتراس» أربكه، بينما كان اتصال مع «سامح» أحد راكبى القطار كافياً لزيادة التوتر «إحنا واقفين فى المحطة اللى قبل بورسعيد وعايزين يخلونا نركب أتوبيسات من هنا بعد ما انضربنا فى الإسماعيلية والأمن بيقولنا ده أمان أكتر»، وقعت الكلمات فى قلب «صبرى» موقع الرعب، إلا أنه فى تمام الخامسة إلا ربع وقبل بداية المباراة بـ15 دقيقة كان الألتراس يغرد «جمهوره ده حماه.. ع الحلوة والمرة معاه». يرتدى طالب الهندسة تيشيرت الأهلى أزرق اللون المخصص للتدريب، يتفاءل ويفتخر به، يجلس على مقاعد وثيرة، وأجواء من المفترض أنها أكثر أماناً، داخل مكان مخصص لكبار المسئولين وعلية القوم، مكان الجهاز الفنى للأهلى قبع تحت الجزء المخصص لجمهور بورسعيد، والاعتداء على اللاعبين بالقول والفعل زائد على حده، فيما كان عرين المقصورة مباحاً بفعل «الهرجلة» غير المفهومة. صراخ، ضجيج، أناس يركضون، بكاء هيستيرى يخالطه صيحات انتصار، أسلحة بيضاء فى مواجهة صدور عارية، شتائم لمحبوبه «الأهلى»، ودماء تنزف من عشاقه «الجمهور»، «ربيناهم.. أديكوا اتعلم عليكوا يا ولاد الـ..... عشان يعرفوا يعملوا رجالة.. اقلع الفانلة يا..». كلمات تدوى من أعلى مكان مُعتم، لحظة قيام الساعة تتجلى فى رأسه، إنها النهاية لا ريب، لكزات تحاول أن تحرك قدمه التى تسمرت فى الأرض، فيما يستشعر أن دوره الذى قدم إليه بمحض إرادته آتٍ لا محالة، كجهاز حاسوب أُدخل إليه ألفى أمر فى وقت واحد، يريد أن ينقذ أصدقاءه، يحاول استعطاف المعتدين، يتمنى أن يصرخ، يستجدى الدموع، أصوات الهلع تصم أذنه، الصداع يفتك برأسه، لا يشفى غليله سوى كلمة مفهومة يعلم بها فحوى ذلك المشهد العبثى باقتدار.[Quote_1] قبل دخول «صبرى» الاستاد بدقائق سمح لهم أحد رجال الأمن بترك سيارتهم إلى جوار سيارات الشرطة على بعد أمتار من إحدى بوابات الاستاد المطل على شارع 23 يوليو خشية تحطيمها عقب اللقاء، خاصة أن لوحات العربة تشير إلى أن صاحبها قادم من القاهرة، فيما كان رجل الأمن ذاته سبيلاً للدخول ثانية بعد مغادرة الاستاد قبل دقائق من انتهاء المباراة. آخر لحظات الفرحة التى عاشها الشاب العشرينى حانت لحظة إحراز الأهلى لهدفه الوحيد فى منتصف الشوط الأول، بعدها لم ير صبرى سوى أجواء حرب تغلف مباراة لكرة القدم «المقصورة بقت مليانة ناس شكلها غريب واقفين قدامنا والخوف بقى معشش فى قلوبنا مش عارفين ليه»، جمهور المصرى يرتع فى الملعب كل دقيقة، وإحراز النادى البورسعيدى للتعادل بات محل تبرير الرفاق، فيما تصاعدت حدة الفوضى مع تغلب المصرى بهدف ثانٍ، وكان هز شباك النادى الأهلى للمرة الثالثة أدعى بسرعة ركض «صبرى» ورفاقه خارج أسوار المكان. الزمن توقف، والقلب يتصاعد هبوطاً ونزولاً بسرعة جنونية، العقل شت، الوساوس جميعها تحاصر الشاب العشرينى، هل رأوا ذلك القميص المشير إلى انتمائه للفريق الأحمر رغم إغلاق سترته الخارجية بإحكام، هل لمحه واحد منهم، وهو يحتفى بهدف الأهلى، جحظت عيناه من مقلتيها، وفُتح فوه رغماً عنه، نزلت عليه سكتة لا إرادية، النطق حاسة مفقودة والبصر والسمع يكادان ينفجران من هول ما يمر عليهما، أما الفؤاد فقد يكون الاضطراب وصفاً لا يليق بما يعانيه «بس كل اللى تخيلته إن دى علقة سخنة.. كلمة موت معدتش على خيالى.. ده ماتش كورة فى النهاية». كان اللواء الفيشاوى قد استأذن «ممدوح» صاحب السيارة أن يعود معهم إلى القاهرة، بينما كانت كلمات «إحنا لازم نرجع أنا حاسس إن فيه حاجة غلط» التى أطلقها الرجل الستينى كافية لتعزيز أحاسيس الشباب الذى أوقف السيارة بعد سير استمر لدقيقة واحدة فى طريقهم إلى القاهرة. صوت هالع هاتف «صبرى»: «انتوا كويسين.. أمال إيه اللى بيحصل عندكو ده»، انتهت المكالمة بمرور سيارة إسعاف تحمل شخصاً قيل لهم إنه أحد جنود الأمن المصابين، مرقوا على أثرها الأصدقاء -بفضل رجل الأمن الواقف على بوابة مغايرة- داخل الاستاد ليجدوا أنفسهم أسفل مدرج الأهلى وسط آلاف المشجعين وملايين الأحاسيس التى لا توصف.[Quote_2] بدت الأصوات المتصارعة تتنافر، فخفتت كلمات البذاءة قبل مشجعى الأهلى وناديهم، الأعداد حوله تنفض، الأسى ينتصر ببراعة على الاحتفالات المتراقصة على أجساد «الضحايا»، ويتعالى نحيب لا يعرف «صبرى» مكمنه، هل هو خيال أم واقع، صادر من المجهول، صدى صوت المكان الضخم يهيمن عليه ترديد نغمات البكاء الحزينة، بدأت قدمه فى التحرك، كالمُعافى من مرضٍ مزمنٍ، بدأ الوعى يعود إلى رأسه، كل الوجوه التى يعرفها كانت فى ملكوت خاص، من يحمل جسداً عارياً تلطخ جبينه بالدماء، ومن هو محمول على الأعناق من أناس ملأت جفونها نبع دموع لا ينضب، وثالث يجر رابعاً بعدما عجز عن حمله، «أول حد شفته صاحبى حسام كان موجود فى الدرجة الثالثة بيبكى بهستيريا حضنته وسكتّ»، كلما تمر سيرة «ملك الموت» على مخيلة الشاب العشرينى يؤثر الصمت «لسانى ماكانش مطاوعنى أسأل حد.. كل ما أتوقع إن الرد هيكون أصل صاحبنا (...) مات أسكت على طول». ظن طالب الهندسة أن غرفة ملابس اللاعبين هى المكان الأهدأ، قبل أن يجدها أكثر إيلاماً من المشهد خارجها، جُثث ملقاة على الأرض، ولاعبون يمتهنون الطب «كنت عامل زى اللى عايز يسأل على حاجة وسط الصلاة.. جلال الموقف خلانى أحاول أفهم من العيون.. بس حالة الرعب اللى فيها الناس تعقل المجنون»، أنفاس تصدرها أجساد مطروحة أرضاً لا يدرى «صبرى» هى زفراتهم الأخيرة فى الدنيا، أم هى مجرد نسمات يكابدون فى التقاطها تتعلق بضيق النفس «المكان كان عبارة عن غرفة فيها عدد كبير من البشر.. لاعيبة مضروبة وناس بتصرخ ودم سايل وحكايات خيالية»، عندها تيقن صبرى أن ما رآه لم يكن سراباً لكنه مذبحة. فى ذكرى جمعة الغضب الأولى تزامن موعد مباراة المقاولون أمام الأهلى التى سبقت لقاء المصرى، كانت لافتات ألتراس أهلاوى يومها تتحدى السلطة الحاكمة، حين كتبوا عبارة «هنفضل فاكرين عاركوا ليوم الدين.. انسحاب الداخلية يوم 28»، فيما كانت هتافات «يسقط يسقط حكم العسكر» ترج الأركان بعد استشهاد «محمد مصطفى» عضو الألتراس فى أحداث مجلس الوزراء «الألتراس فى الثورة من أول يوم كان واقف فى موقعة الجمل وفضل صامد فى محمد محمود وكان طبيعى الدولة تحاول تأذيه بس محدش تخيل إن ده التمن» يعلق بها الشاب الذى شارك فى أحداث يناير منذ بدايتها، بعد عام من مرور الذكرى التى لن تمحوها الأيام من ذاكرته. بدأت الروايات تتواتر على مسامع الشاب المصدوم، أحدهم يقول إن التليفزيون أذاع خبراً عن مقتل 23، وآخر يردد عدداً أكبر، وثالث يتحدث عن ممر الموت، فجأة قادته قدماه صوب ذلك المكان الموحش المُفضى إلى باب حديدى تم لحامه عمداً ليشكل مصيدة لمن قال عنهم «أجدع شباب فى مصر»، «عمرى ما هنسى المكان ده طول عمرى شايفه مرعب»، الظلام دامس، والجثث كومة واحدة، من كان يجمعهم عناق النصر داخل أروقة ملاعب الكرة، صاروا متعانقين فى سرب يبدأ رحلته إلى السماء.[Quote_3] «أنس مات» أول اسم تردد على مسامع «صبرى» جاءه من «عبدينيو» أحد قادة الألتراس الذى كان يردد العبارة بشكل متواتر دون توقف يتبعه بكاء يدمى القلوب، حينها كان الملعب كساحات الحرب الخاوية، لا يسمع فيها سوى أنات البعض المتقطع أنفاسهم من كثرة الصراخ المستمر. مخاطرة جديدة خاضها «صبرى» حين ترك المدرعة الحربية التى نقلت اللاعبين لمطار بورسعيد، بعدما هاتف حسن حمدى رئيس النادى اللواء الفيشاوى طالباً منه حصر أسماء الشهداء، حين توافد الآلاف أمام بوابة النادى الأهلى فى حالة ذعر على حال ذويهم، ففضل أن يبقى إلى جوار الرجل الستينى بحصوله على مفتاح سيارة صديقه «ممدوح»، أولاد الحلال من البورسعيدية كانوا متصدرين المشهد بعدما خوت الساحة من تجار الموت، لتبدأ رحلة جديدة من البحث داخل «مشارح» المستشفيات، «كعب داير» ظل فيه الشاب العشرينى حتى الواحدة صباحاً، على شاشات التلفاز وقعت فى تلك الأثناء عينه على طائرة الأهلى التى وصلت تحت حماية الجيش، وعلم أنباء عن وصول قطار المشجعين بعد ساعات، وقتها أصر أن يكون ختام يومه استقبالاً للأبطال «كنت ماشى بالعربية زى الطيارة ودخلت محطة مصر قبل القطر ما يوصل بعشر دقايق»، استقبل «صبرى» الأحياء الأموات، فيما لم تعرف عينه النوم إلا فى التاسعة صباحاً، استعاد خلالها المشاهد آلاف المرات «صحيت م النوم لقيت 372 مكالمة وعدد رسايل ضخم.. كل الناس كانت قلقانة.. بس مش قادر أقول عدت على خير.. الحمد لله». فى يوم النطق بالحكم فى قضية المذبحة التى راح ضحيتها 72 شهيداً من مشجعى الأهلى، كان «صبرى» وسط أولئك الذين عايشوا المجزرة، يرتدى صدفة الفانلة الزرقاء نفسها التى ارتداها يوم المباراة، يضحك بأسى، فيما يملأه أمل بأن حق أصحاب المسيرة لن يذهب هدراً، «إحالة أوراق المتهم...» لم يكمل القاضى كلماته حتى راح صبرى يوجه رأسه إلى السماء مبتسماً لأولئك الذين ضحكوا فى الفردوس من عدالة ظن أنها غائبة.