بعيداً عن المزايدات والمكايدات السياسية، والانتهازية الإخوانية، وبغض النظر عن نواح وعويل الندابين من النخبة المصرية، وسواء كان الوضع القانونى يثبت أن تيران وصنافير أرض سعودية ظلت تحت السيادة والحماية المصرية طوال العقود الماضية، أو كانت جزءاً أصيلاً من تراب الوطن الذى لا يباع ولا يشترى، فالمؤكد أن سيناريو طرح اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية على الرأى العام، يعكس فشلاً سياسياً لا نظير له فى التعامل مع سيكولوجيات الجماهير، وعجزاً فى منهج إدارة القضايا والأزمات التى يمر بها الوطن!
إننى لا أدرى كيف يخفى على أصحاب القرار الواقع الراهن، والوضع الاقتصادى والإقليمى المتردى، والضغوط السياسية والدولية، وحالة التربص والاستهداف من الداخل والخارج، وما تحتاجه المرحلة من حسابات دقيقة وتعامل بقدر كبير من الحكمة، كل ذلك يشير إلى أن التوقيت والظروف والملابسات التى خرجت فيها تلك القضية إلى الرأى العام، لا يمكن أن ينجم عنها -بأى حال من الأحوال- سوى ذلك المشهد الهستيرى، وتلك الحالة من اللغط والغضب والتخبط والاستياء.
واقع الحال أن وجود الملك سلمان بن عبدالعزيز، خادم الحرمين الشريفين، على أرض مصر، وفى جعبته مليارات الدولارات وعشرات المشروعات، بعد فترة ليست قصيرة من فتور العلاقات، وتزامن بيان رئاسة الوزراء مع الإعلان عن العطايا والهدايا والمنح المقدمة منه للشعب المصرى، جعل جانباً كبيراً من أبناء الوطن يعتقدون أن تلك الأموال ثمن للجزيرتين!!
وما زاد الطينة بلة.. حالة التجييش والتهييج والشحن على مواقع التواصل الاجتماعى، بقيادة المعارضة المصطنعة إياها، ولأننا معشر المصريين نعشق الفتى ونحب أن ندلو بدلونا فيما لا نعرف ولا نعلم، وجدنا من تحولوا إلى خبراء عسكريين وسياسيين، وأساتذة فى القانون والتاريخ، وعلماء فى الجيولوجيا وعلوم البحار، كل ذلك دفع طبقات وشرائح عديدة من عامة الشعب إلى تصديق النواح والتباكى. رأينا الجرذان يخرجون من جحورهم، ويخوضون سباقاً محموماً للقفز على الساحة، ولملمة بقايا وفتات الأدوار المفقودة والمكاسب الضائعة!!
يا سادة.. إن الفارق كبير بين المعارضة الوطنية الغيورة على أرض مصر وترابها، والاعتراضات العلمية والقانونية الموثقة بالحجج والأسانيد والأدلة، وبين بيانات عنترية وتصريحات غوغائية، وترجمات مغرضة تلوى ذراع الحقائق، وتدوينات متضاربة ليست بعيدة عن الهوى كشفت وجوهاً قبيحة متلونة، تتلاعب بمشاعر الجماهير وتناقض أقوالها السابقة واللاحقة!
إننى لم أتوقف أمام سخافات واستظراف باسم يوسف الذى ليس له موقع من الإعراب! ولا يعنينى تناقضات محمد البرادعى، وما كتبه عن احتلال مصر لجزيرتين سعوديتين فى المجلة الأمريكية للقانون الدولى فى الثمانيات، وما غرد به بقلمه الصداح الوضاح منذ أيام!! لكنى أندهش حقاً من موقف المستشارة هايدى فاروق، خبيرة قضايا الحدود الدولية والثروات العابرة للحدود، والتراجع المثير للدهشة فى موقفها الذى أعلنته على الملأ، خلال مداخلة مع برنامج «صباح أون»، والتى أكدت خلالها ملكية مصر لجزيرتى تيران وصنافير، وامتلاكها الخرائط التى تثبت ملكية ذلك منذ القرن الثانى الميلادى! لكنها عادت لتعلن عدم امتلاكها لأى وثائق أو مستندات، ونفت تعرضها لضغوط من أى نوع تجبرها على التراجع عن موقفها!!
إننى على يقين من أن القيادة السياسية لا يمكن أن تتنازل عن ذرة من تراب مصر، كما أننى على يقين من أن المصريين لن يطمعوا فى أراضى دولة أخرى شقيقة أو غير شقيقة، لكننى أرفض أن تدار المشاكل والقضايا والأزمات بهذا الأسلوب الذى يفتح الباب على مصراعيه أمام مزيد من التشقق والتصدع فى البنيان المصرى، ويعطى فرصة أمام جرذان السفينة لهدم وحدة الوطن!