هذه هى مصر! يقاوم أنبل أبنائها من فتية ورجال ونساء فى اعتصام كبير فى قلب ميدان التحرير، ميدان الثورة، من أجل إنقاذ الثورة، وفى شارع عيون الحرية، فى مواجهة الفاشية الدينية والديكتاتور الغاشم الجديد، مجددين خلال أقل من سنتين شعار الثورة العربية فى كل مكان، المستلهَم من الشابى شاعر الثورة العربية فى كل زمان: «الشعب يريد إسقاط النظام».
وفى نفس اللحظات، تُقدِّم كوكبة من أبناء مصر الموهوبين، على مقربة من ميدان التحرير، فى دار الأوبرا المصرية عبر مسرح «الهناجر»، عرضها المسرحى الجميل الراقى عن درة إبداعات سيد درويش، أوبريت «شهرزاد»، مستعيدين بذكاء ونفاذ ومواهب صادقة، جادة هذا التراث المرموق للأفذاذ: سيد درويش ملحن عبقرى، وعزيز عيد مؤلف نابه، وبيرم التونسى كاتب رائع للأشعار والأغانى، وقاد المخرج القدير أحمد عبدالجليل الكوكبة الموهوبة، بخبرة عميقة وإخراج نابض بالحيوية واللماحية والذوق المرهف، وأجاد اختيار المؤدين وإدارتهم، وهم قدَّموا أداءً غنائياً وتمثيلياً فى آن معاً، وعلى درجة واضحة من التوفيق فى كل منهما، بمن فيهم من يعملون بالغناء، لكنهم فى العرض يمثلون لأول مرة مثل رحاب عمر (دور الأميرة شهرزاد) بحضور ملحوظ، ومَن يُعرفون بالتمثيل لكننا نفاجأ بأداء غنائى لافت لهم، مثل الممثل المخضرم المقتدر أيمن الشيوى (دور الوزير)، وفى مقدمة المتميزين فى العرض وليد حيدر (دور زعبُلّة)، غناء وتمثيلاً، إلى جانب قيامه ببراعة بالموسيقى التصويرية وبتوزيع مجموعة ألحان (مثل أنا المصرى)، وموهبته جديرة بمستقبل كبير فى المسرح والفيلم الغنائى.. ومن مخضرم معروف آخر وهو محمد عبدالمعطى (دور قرة آدم)، مروراً بالشباب الذين أجادوا بوضوح مثل نهاد فتحى (دور حورية)، وأحمد أبوعميرة (دور مخمخ)، إلى جوارى الأميرة، مثل علا سعيد وأدائها الغنائى.. وبقية الفريق، ومعهم ديكور عبدالمنعم مبارك واستعراضات عاطف عوض.
هذا عرض ممتع خفيف الظل، يعبِّر بالمسرح الغنائى عن صورة (أو لوحة) من الصراع الكبير بين الحب والخير والاستقامة، والخُبث والدسائس فى بلاط الحكام، ويستند إلى مواهب الرواد العباقرة، لكنه أيضاً عرض بمواهب معاصرة وجديدة مبشّرة، تؤكد أن المواهب فى مصر لا تنضب أبداً، وتحتاج فحسب إلى مناخ ثقافى وسياسى صحى يتيح وييسر، بل إن هذه الطاقات المعاصرة تتمكن من تقديم مثل هذا العرض المتميز، فى ظل أسوأ مناخ وظرف يمر بهما المسرح المصرى، ربما فى كل مراحله!
نعم إنهم المصريون.. يقاومون فى «التحرير» ويُبدعون على مقربة يسيرة فى «الأوبرا»، وكل من المقاومة، والإبداع، هو فعل بامتياز، ضد الفاشية والإرهاب المتمسح فى الدين ومحاولة سرقة الثورة، وسوف يسقطها الشعب الثائر كما أسقط عصابة اللصوص وأكبر عملية نهب فى تاريخ البلاد لمبارك وشركاه!